وتحسبهم أيقاظا وهم رقود
عبد العزيز كحيل
يتراءى للناظر إلى أصحاب الكهف في كهفهم أنهم أيقاظ لأن ظاهر حالهم يدل على ذلك في حين أنهم نيام نوما عميقا طويلا.وهذا الأمر يطرح قضية الانخداع بالظاهر والحكم على الأشياء والوقائع والأحداث بناء عليه مما قد يسبب أخطاء فادحة في التقويم..فالحالة الطبيعية تتمثل في تطابق ظاهر الشيء أو شكله مع باطنه وجوهره،فإذا وقع الفصام حدث الخلل ، والمشكلة التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر في هذا الصدد هي انخداعه بالمظاهر والأشكال والرسوم وكأنها تتطابق حتما مع البواطن والجواهر والمحتويات وهو انخداع أشار إليه القرآن الكريم كثيرا ''وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم''.ولما حدث الطوفان نظر إليه ابن سيدنا نوح عليه السلام على أنه مجرد ظاهرة طبيعية –بناء على ظاهرها- يمكن الإفلات من عواقبها فقال:''سآوي إلى جبل يعصمني من الماء'' بينما علم نوح حقيقتها فقال:''لا عاصم اليوم من أمر الله''..فالوقوف على لب الشيء يعصم من الزلل الذي يوقع فيه الاكتفاء بالظاهر، وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي ''إياكم وخضراء الدم'...المرأة الحسناء في المنبت السوء"(الحديث يصلح للاستشهاد وإن كان في سنده مقال).
إذا انتقلنا من النصوص إلى الواقع أمكننا ملاحظة أنواع من الخطأ في الحكم على الأمور بسبب الإشتغال بالظاهر وحده،ففي التعليم يقاس نجاح السياسات بعدد التلاميذ والهياكل التربوية – المدارس والمعاهد والجامعات ومراكز التكوين...- ، في حين أن مناط الحكم هو مدى وجود المعرفة والعقلية العلمية والتفكير المنطقي والاستعداد للاضافات الحضارية..،ويعرف المثقف بأنه حامل الشهادات الأكاديمية بينما المقياس الصحيح هو حضوره الفعلي على مستوى العطاء والإنتاج الثقافي والتأثير في المجتمع ،وتتبجح بعض الأنظمة العربية بالديمقراطية مستدلة على توفرها بوجود تعددية حزبية وإعلامية ومؤسسات تمثيلية ونحو ذلك بيد أن حقيقة الديمقراطية غائبة تماما وهي المتمثلة في كون الشعب مصدر السلطات والتداول على الحكم..وشتان بين الديمقراطية في جوهرها والديمقراطية الصورية الشكلية..وإذا تناولنا ما يتعلق بالإسلام،فإننا نجد''الأسلمة'' عند قطاع كبير من المسلمين تقتصر على الالتزام بمظاهر التدين كاللحية والحجاب مع غض خطير للبصر عن حقيقة الالتزام الديني على مستوى الأفكار والعواطف والسلوك ، كما أن الأسرة المسلمة عندهم تعني إطلاق أسماء الشخصيات الإسلامية على الأبناء وتعليق الأدعية على جدران البيوت واستعمال بعض العبارات العربية الفصيحة مع إغفال أداء الحقوق بين أفراد الأسرة وإحلال جو الحوار والشورى والتقوى في البيت...وفي مجال الأخوة، يلاحظ اهتمام بالغ بالمعانقة وسرد حقوق الأخوة الواردة في السنة والتخاطب بمثل عبارة ''أخي في الله'' لكن هذا الظاهر قلما تسنده شروط الأخوة وصفاتها في الواقع من حيث البذل والتضحية والتناصح والمحبة والإيثار...
وأخيرا، لا تنجو الدعوة ذاتها من هذه الآفة،فقد اقتصر معناها عند الكثير على الدروس والمعارض وأشكال معينة من التبليغ رغم أنها في حقيقتها هي تحويل الناس إلى ربانيين وهو ما ينبغي أن نراه بأعيننا،كما أنها تعني إخضاع القلوب والعقول والجوارح لله عز وجل ..فإذا لم يتحقق ذلك فلا يغني الدعوة أن تتزين بمظاهر متنوعة من النشاط.
إن الشكل أو المظهر له اعتباره ما في ذلك شك..وقد يكون واجبا(مثل حجاب المرأة)،لكن المقياس الحقيقي للتقويم هو الجوهر أو الباطن..وقد قال الإمام ابن القيم''العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني''...وصدق الله العظيم الذي لخص الكلام في قوله المعجز'' وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب''.