كيف تحج حجّاً مبروراً

كيف تحج حجّاً مبروراً؟

جمال ماضي

[email protected]

أولاً: معنى الحج المبرور

جاء في بعض الأحاديث وصف الحج التام بالحج المبرور؛ فقال- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري:"والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

ومن أجل ذلك فإننا بحاجةٍ- أيها الحاج- إلى أن نتعرَّف على علامات الحج المبرور، وما هي الأمور التي يتحقَّق بها بر الحج حتى نقوم بها؟ وما الأمور التي تنافي ذلك حتى نجتنبها؟ فالناس يتفاوتون في حَجِّهم تفاوتًا عظيمًا على حسب قربهم وبعدهم من هذه الصفات والعلامات.

وقد ذكر العلماء أقوالاً في معنى الحج المبرور، وكلها تنتهي إلى تقارب في المعنى، بل إنها لا تخرج عن معنى واحد وهو: "أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل".

فالحج المبرور هو ما استوفى أحكام الحج، وتعمق أثره في نفس الحاج على الوجه الأكمل، وليس الأمر في الوصول إلى الكمال بل مناشدة الكمال، وكل مَن يبغي الرقي سيصل حتمًا.

 ثانيًا: كيف يكون حجك مبرورًا؟

1- قبول الأعمال:

إن ميزان قبول الأعمال عند الله ميزان خاص وسهل وميسَّر؛ هو إخلاص العمل لله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجْهُه؛ فالحاج وهو في هذا الموقف أولى الناس بأن يفتش في نفسه، وأن ةيتفقَّد نيته من أية نية تُضاد الإخلاص، وتُحبط العمل، وتُذهب الأجر والثواب، كالرياء والسمعة، وحب المدح والثناء والمكانة عند الخلْق؛ فكما عند ابن ماجة أن نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم "حج على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، ثم قال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة".

 2- موافقة السنة:

الحرص على أن تكون أعمال الحج موافقةً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعني أن نتعلم مناسك الحج وواجباته وسننه، وصفة حجه عليه الصلاة والسلام؛ فهو القائل كما في حديث جابر رضي الله عنه: "لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" (رواه مسلم).

 3- تهيئة النفس:

تهيئة النفس قبل الحج تعين الحاج على أن يكون حجه مبرورًا، وهذه خطوات عملية تساعد في التهيئة النفسية: (التوبة النصوح، واختيار النفقة الحلال، والرفقة الصالحة، وأن يتحلل من حقوق العباد، والمبادرة بتوصية أهله، وسكينة النفس).

 ثالثًا: كيف تتأكد أن حجك مبرور؟

من أجل أن تتأكد أن حجك مبرور تأكد من وجود هذه العلامات:

أ- أدائك لخصال البر:

من طيب المعشر، وحسن الخلق، وبذل المعروف، والإحسان إلى الناس بشتى وجوه الإحسان، من كلمةٍ طيبة، أو إنفاقٍ للمال، أو تعليمٍ لجاهل، أو إرشادٍ لضال، أو أمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن منكر، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إن البر شيء هين، وجه طليق وكلام لين".

 ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج- كما يقول ابن رجب- ما وصَّى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جُرَيٍّ الهجيمي حين قال له: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تعطيَ صلة الحبل، ولو أن تعطيَ شسع النعل، ولو أن تنزع من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض" (رواه أحمد).

 ب- استكثارك من الطاعات:

ومما يتحقَّق به بر الحج الاستكثار من أنواع الطاعات، والبُعد عن المعاصي والمخالفات؛ فقد حثَّ الله عباده على التزود من الصالحات وقت أداء النسك؛ فقال سبحانه في آيات الحج: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: من الآية 197)، ونهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، فقال عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة: من الآية 197).

 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (متفق عليه).

 والرفث هو الجماع، وما دونه من فاحش القول وبذيئه، وأما الفسوق فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من السلف أنه المعاصي بجميع أنواعها، والجدال هو المِراء بغير حق، فينبغي إذا أردت أن يكون حجك مبرورًا أن تلزم طاعة ربك؛ وذلك بالمحافظة على الفرائض، وشغل الوقت بكل ما يقربك من الله، من ذكر ودعاء وقراءة قرآن وغير ذلك من أبواب الخير، وأن تحفظ حدود الله ومحارمه، فتصون سمعك وبصرك ولسانك عما لا يحل لك.

 ج- تعرفك على أسرار الحج:

ومنها أن يستشعر الحاج حِكم الحج وأسراره، وفرقٌ كبير بين من يحج وهو يستحضر أنه يؤدي شعيرة من شعائر الله، وأنه في هذه المواقف على خطى الأنبياء والعلماء والصالحين، فيذكر بحجه يوم يجتمع العباد للعرض على الله، وبين من يحج على سبيل العادة، أو للسياحة والنزهة، أو لمجرد أن يسقط الفرض عنه، أو ليقال " الحاج فلان".

 وكما قيل: "الحج عبارة عن مجموعة من المناسك والشعائر، وجملة من الأفعال والأقوال؛ تنتظم جميعها في أطر زمنية ومكانية محددة؛ لتجسِّد بمجموعها معنى تعبديًّا، وعملاً تربويًّا يساهم في بناء شخصية المسلم، ويعمل على إعادة تنظيمها، وتصحيح مسيرتها في الحياة، ويسدد وجهتها ومسارها إلى الله".

 ثم يستشعر الحاج التلبية التي هي هتاف الروح: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك.. لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك.. إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْك، لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْك".. نداء تطلقه القلوب المستجيبة لنداء الله؛ تعلن عن ولائها، وصدق توجهها، متحدِّية المتاعب والمشاق؛ حبًّا لله، وشوقًا إليه.

 وكأن القلب يقول: ها أنا قد حضرتُ بين يَدَيْكَ، وقد تَركتُ كلَّ ما خوّلتني ورائي من الأهل، والمالِ، والجاهِ، والمتعِ واللّذّاتِ؛ سَعْيًا لِرِضاك، ووفُودًا عليكَ، وَشَوْقًا إليكَ،فتقبّلْني اللّهمَّ بأحْسنِ قبولِكَ، وأجِبْ دُعائي، وأكرِمْ وَفادَتي عليكَ، وأجِرْ فراري من الذّنبِ إليكَ.

 ثم يتأكد الحاج أن الحج رحلة الروح والبدن، وهجرة الإنسان إلى الله، ووفادته عليه، وهو هجر للأهل، والمال، والملذات، واحتمالٌ للمتاعب والمشاق، والعناء؛استجابة لندائه: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج: 27).

 فالحج عبادة تشترك في أدائها عناصر متعددة يشترك فيها الجسم والمال، وتساهم فيها النفس والمشاعر؛ لذا كان الحج عبادة مالية بدنية؛ يتعبّد بها الإنسان عن طريق بذل المال والجهد، واحتمال المشاق والمتاعب؛ قربةً إلى الله سبحانه، وإظهارًا للعبودية الخالصة له، وتأكيدًا للتحرّر من كل قوّة عداه سبحانه.

د- إدراكك منافع الحج العصرية:

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) (الحج).

 الحج؛ ذلك المؤتمر الإسلامي الكبير، والمظاهرة الإيمانية الرائعة التي تشترك فيها صنوف متعدِّدة من الأجناس، والفئات والطبقات، والقوميّات على موعد واحد، وفي أرض واحدة، يردِّدون هتافًا واحدًا، ويمارسون عملاً واحدًا، ويتِّجهون إلى غاية واحدة، وهي الإعلان عن العبودية والولاء لله وحده.

 والحج كما صرّح القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة إلى جانب كونه عبادة وتقرُّبًا إلى الله سبحانه، فإنّ فيه منافع اجتماعية، وفوائد ثقافية، واقتصادية، وسياسية، وتربوية، تساهم في بناء المجتمع الإسلامي، وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حل مشاكله، وتنشيط مسيرته.

 ففي الحج يشهد المسلمون أروع مظاهر المساواة، والتواضع، والأخوة الإنسانية، بإلغاء الفوارق، والأزياء، وخلع أسباب الظهور الاجتماعي، والظهور باللباس العبادي الموحّد (لباس الإحرام)؛ حيث يحسّ الجميع بوحدة النوع الإنساني وبالأخوة والمساواة.

 وفي الحج يستشعر المسلمون وحدة الأرض، ووحدة البشر، ويمثلون عملية إسقاط الحدود التي صنعتها الأنانيات والأطماع البشرية الإقليمية، والقومية، والعنصرية.

 والحج بما أنه تجمع بشري ضخم، يستقطب الملايين من المسلمين من مختلف الأقطار والأمصار؛ فهو يُنتج حركة بشرية هائلة؛ يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم; عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع، وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيات ومستلزمات الحج والإقامة والسفر; فينتفع العديد من المسلمين، ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية ومالية نشطة.

 هـ- عودك الحميد باستقامة دائمة:

من علامات الحج المبرور أن يستقيم المسلم بعد حجه فليزم طاعة ربه، ويكون بعد الحج أحسن حالاً منه قبله؛ فإن ذلك من علامات قبول الطاعة، قال بعض السلف: "علامة بر الحج أن يزداد بعده خيرًا، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "الحج المبرور أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة".

 وذلك لما في الحج من إعداد وتربية لسلوك الفرد ونوازعه؛ ففي الحج يتعوّد الحاج الصبر، وتحمّل المشاق، وحسن الخلق، من اللطف، والتواضع، واللِّين، وحسن المحادثة، والكرم، والتعاطف، والامتناع عن الكذب، والغيبة، والخصومة والتكبّر... إلخ.

 وفيه يتعوّد الألفة، والتعارف عن طريق السفر والاختلاط، وتنمو لديه الروح الاجتماعية، وتتهذَّب ملكاته الأخلاقية، عن طريق هذه الممارسة التربوية، والتفاعل البشري الرائع، الذي يشهده في الحج، بأرقى درجات الالتزام، والاستقامة السلوكية.

 وهكذا يعود الحاج كيوم ولدته أمه، ليبدأ صفحة جديدة في حياته، من النقاء والطهارة والصفاء.. إنه يحمل في نفسه طاقة هائلة، ليخطوَ خطوات النجاح في حياته مع ربه، ونفسه والناس.

أسأل الله أن يجعل حجك مبرورًا، وذنبك مغفورًا، وسعيك مشكوراً.