فَشُدَّ المئزر

فَشُدَّ المئزر..

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

وهلَّت نفحات الشهر الحبيب.. وها هو يحلّ ضيفاً علينا وأيّ ضيف.. تتوق للقائه القلوب المؤمنة الموحِّدة وتجتهد في أيامه ولياليه باغية القرب من الله جلّ في علاه والارتقاء نحو المعالي.. فتعيش بين خوفٍ ورجاء وكثرة طاعات وذكر وتهليل وتسبيح وتلاوة القرآن الكريم.. وتتحرّى الأرواح ليلة القدر إذ تُعتَقُ فيها الرقاب.. ويرضى ربُّ الأرباب..

كان السلف رضوان الله عليهم يدعون الله جلّ وعلا ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان ويبقون ستة أشهر بعده يدعونه جلّ وعلا أن يتقبّل منهم صيامهم وقيامهم وطاعاتهم.. فإن كان هذا حال السلف وهم على ما كانوا عليه من التقوى والزهد فكيف بنا نحن في زمنٍ غرق الناس فيه بالماديات والشهوات حتى بات الذنب يُرى أصغر من الحصى وهو عند الله كبير..

كم يطيب للنفس أن تضع منهاجاً تتّبعه في رمضان حتى لا يفوتها شيء من الخير فيتم تقسيم الوقت بدقّة ودراسة فهذا وقت العمل ثم الصلاة ثم القيلولة ليتقوى بها المرء على قيام الليل ثم العبادة فالإفطار والتراويح فالنوم بعدها مباشرة من دون تضييعٍ للأوقات فيما لا يُغني خاصة حضور المسلسلات والبرامج التي يدّعون بهتاناً أنها من أجل شهر رمضان المبارك! ولو أدركوا ما في هذا الشهر من خيراتٍ وغنائم لقطعوا البث عن أغلب الفضائيات التي تسمِّم أفكار الشباب وتهيِّج شهواتهم وتُبعِدهم عن الله جل وعلا وتقرِّبهم من الضلال!

ولعلّ من أفضل أعمال المرء في بداية هذا الشهر أن يحدِّد له هدفاً يركِّز عليه.. كأن يتعهّد القرآن الكريم فيراجع ما نُسِّيَ منه ويُكثِر من تلاوته أو ينكب على قراءة كتاب يجلو القلب ككتاب طب القلوب لابن القيِّم الجوزية أو يتوغّل في أحداث السيرة ليعيش مع الحبيب عليه الصلاة والسلام أو يُكثِر من الصلاة والسلام عليه بأبي هو وأمّي.. أو يساهم في خدمة مجتمعه فيما يراه مناسباً أو يُفطِر الصائمين ويعود المرضى ويصِل الأرحام.. هي ألوان كثيرة للخيرات.. والأجر مضاعف والربُّ أكرم.. ومن فضله علينا أن نوَّع في الطاعات فتتناول النفس ما تجد لذتها فيه دون تغاضٍ عن الفرائض..

وإن كان المسلم يعاني من عادة سيئة يصعب عليه تركها فهذا الشهر الفضيل هو أفضل مناسبة لأن يغيِّر من عاداته التي تحكّمت وأصبحت طباعاً متأصِّلة فيه وهي بغيضة.. على أن يعزم عزماً أكيداً على التغيير ولا يتواكل ويتمنى على الله الأماني من دون جهدٍ منه يُذكَر "إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم"..

فإن كان يعاني مثلاً من آفات اللسان كالغيبة والنميمة والكذب والسب واللعن فإنّه خلال هذا الشهر الكريم إن استطاع الامتناع عن هذه الآفات وترويض لسانه على عدم النطق إلا بما يُرضي الله جل وعلا بغية رضاه سبحانه فيكون قد خرج من رمضان وقد انتفع منه وحقَّق هدف الصيام الذي لا يتوقف عن الامتناع عن الطعام والشراب وإنما الامتناع عن كل ما يغضب الله جل وعلا وكبح لجام النفس عن الشهوات والمعاصي والآفات.. وليتذكّر حين توسوس له نفسه التكلّم بما لا يرضي الله جل وعلا حديث الحبيب عليه الصلاة والسلام "الصيام جُنَّة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يجهل ولا يرفث فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم".. ومثل آفات اللسان كذلك يكون الأمر في البُعد عن آفات القلب كالحسد والكِبِر والغفلة وطول الأمل.. وآفات الجوارح جميعها كإطلاق البصر والسمع ومعلومٌ أن الجوارح تصلح إن صلُح القلب فهي جنود القلب تطيعه فيما يأمر.. فليحرص المؤمن على معالجة قلبه ابتداءً فهي المضغة الأساس في هذا الجسد الفاني..

إذاً بتحديد الإنسان للهدف الذي يريده في التغيير وبوضعه لما يحفِّزه من أحاديث وآيات تعينه على حسن المسير وبالدعاء الخاشع والخضوع والتذلل لله جل وعلا وحسن التوكل عليه سبحانه يتحقق مراده بإذنه تعالى..

فرمضان فرصة للتغيير الحقيقي إذ فيه تُصفَّد الشياطين وتضعف النفس بانقطاعها عن الطعام والشراب.. يقول صاحب الإحياء الإمام الغزالي رحمه الله جل وعلا "ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت؛ زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها. فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور..."

ففي الصوم كفٌّ وتركٌ وقهرٌ لعدو الله كما قال أيضاً.. فليتنا نكون ممّن يصومون صيام خواص الخواص.. ولا نكتفي بصيامنا عن الكفّ عن الطعام والشراب والقلب بغير الله قد انشغل!

فلنهجر العلائق ولنجدِّد التوبة ولنَسْعَ للعتق من النار بكل طاقاتنا ولنكثِر من الدعاء للمسلمين والمجاهدين والأسرى.. ولنعِش زمن الانتصارات في رمضان.. بدر وفتح مكة وغيرهما.. ولنتوغّل في التفكير بأسباب هذه الانتصارات التي حققها الصحابة رضوان الله عليه.. لعلنا نقتبس من تلك الإضاءات ما يعيننا على المسير والسعي لعودة البريق إلى أمّةٍ أخفقنا في الحفاظ على أمجادها حين بعدنا عن ربّنا جل وعلا وآثرنا دنيا دنيّة..

ولتكن لنا خلوات للتفكّر والتأمّل والتذكّر.. فننظر في ملكوت الله جل وعلا وفي آلائه.. وفي أنفسنا علّنا نُبصِر.. وفي السماوات والأرض والفضاءات الرحبة فكلها من صنع القادر المبدِع..  

هي أيام قلائل.. فيها من الخير الكثير.. فلا أقلّ من استغلالها بكل دقائقها.. واغتنام الأوقات جميعها في فعل الطاعات.. لعلّ الله جلّ وعلا يكرم عباده الطائعين برحمة منه واسعة ويدخلهم جنّاته العليا..

وطوبى لمن طوى في هذا الشهر فراشه.. وشد مئزره وأسرج قنديله.. وتبتّل!

رمضان كريم..