رسائل المراقب العام بمناسبة شهر رمضان

رسائل المراقب العام – الرسالة التاسعة والعشرون
بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك

في 27 من شعبان 1429 الموافق 28 من آب 2008

من المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، إلى إخوته وأخواته أبناء هذه الجماعة المباركة، وأنصارها وأصدقائها في كلّ مكان، وإلى أهلينا وإخواننا وأبنائنا وبناتنا، داخل الوطن الحبيب وخارجه..

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وكلّ عامٍ وأنتم بخير.. وأحمدُ إليكم الله الذي جعلَ لنا شهرَ رمضانَ واحةَ رحمةٍ وبركةٍ نتفيّأ ظلالها.. وأصلّي وأسلّمُ على حبيبنا وقُدوتنا سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، ومن سار على دربهم واهتدى بهَدْيهم إلى يوم الدين..

أما بعدُ أيها الإخوة الأحبة والأخوات.. يا أبناءَ شعبنا في سورية الحبيبة.. فها هي ذي بشائرُ رمضانَ تلوحُ في الأفق، تحملُ للمؤمنين والمؤمنات نسَماتِ القبول والرضى من الله عز وجل، فلنستعدّ لاستقباله كما وجّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (أتاكم رمضانُ شهرُ بَرَكة، يغشاكمُ اللهُ فيه، فيُنزِلُ الرحمة، ويَحُطّ الخطايا، ويستجيبُ فيه الدعاء، ينظرُ الله تعالى إلى تنافُسِكم فيه، ويُباهي بكم ملائكتَه، فأرُوا الله من أنفسِكم خيراً، فإنّ الشقيّ من حُرِمَ فيه رحمةَ الله عزّ وجلّ).

فحريّ بنا - أيها الأحبة - أن نُحسِنَ استقبالَ هذا الشهر الكريم، والاستفادةَ من دروسه، واغتنامَ أيامه ولياليه، فنصومَه حقّ صيامه، ونقومَه حقّ قيامه، ونُريَ الله فيه من أنفسنا خيرا، ليكونَ لنا زاداً على الطريق، متذكّرين أنه شهرُ الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وأنه شهرُ الإخلاص والتقوى والعبادة، وأنه شهرُ التلاوة والضراعة والدعاء، وأنه شهرُ الخير والجود والبذل، والتراحم والتكافل، وأنه شهرُ الأخوّة والمحبة، والتآلف والتعاون، وأنه شهرُ الصبر والجهاد، كما أنه فرصةٌ للمراجعة والتقويم والارتقاء، ومناسبةٌ لاستنهاض الهمم، وشحذ العزائم، والتنافس في الخير.. للانطلاق من رمضان بخطىً ثابتةٍ واثقة، وعزائمَ قوية، وهممٍ عالية، ورؤيةٍ واضحة، مستعينين بالله عز وجل، متوكّلين عليه، واثقين بوعده ونصره وتأييده، فإنّ المسيرةَ التي تنطلقُ من معاني هذا الشهر الكريم ودروسه، مسيرةٌ مباركة، وإنّ النهضةَ التي تقومُ على أساس تقوى الله عز وجل فيه، إنما تقومُ على أساسٍ متين.

فرمضانُ شهرُ التقوى والإخلاص والتقرّب إلى الله.. (يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وهو فرصةٌ للتوبة النصوح، والإقلاع عن كلّ ما يُسخِط اللهَ عز وجل، من معاصي الجوارح ومعاصي القلوب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه). وعندما تصحّ التوبةُ تكونُ النفوسُ مهيّأةً لاستقبال رحمة الله ونفَحاته.

وهو شهرٌ تُضاعَفُ فيه الأعمال، ليكونَ حافزاً للجدّ والاجتهاد في العبادات التي تقرّبنا إلى الله تعالى، وترفعنا إلى مرتبة أحبابه الذين يحبهم ويحبونه. ولا ننسى العشرَ الأواخرَ من رمضان، والاعتكافَ فيها، وتلمّسَ ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. كما أنّ صومَ رمضانَ عونٌ على رفع مستوى الإخلاص لله عز وجل في أعمالنا، عندما نصومُه ونقومُه إيماناً واحتساباً، بعيداً عن ما يشوبُ الأعمالَ من سمعةٍ ورياء.

ورمضانُ شهرُ الصيام.. والصيامُ عبادةٌ تستغرقُ الجوارحَ والنفسَ والروح. يتحرّكُ فيه المسلمُ في شئون حياته، حاضراً بين يدَيْ مولاه، دون أن يَشغلَه شأنٌ عن هذا الحضور، فإنْ واجهَهُ عارضٌ يناقضُ ما هو فيه من العبادة، تذكّرَ وذكّر: (إني صائم.. إني صائم..).

والصيامُ ليس مجرّدَ إمساكٍ عن الطعام والشراب، إنما هو حالةٌ من التسامي عن متطلّبات الجسد، وإمساكٌ للسمع والبصر واللسان، عن كلّ ما يُسخِطُ الله، إنه لجمٌ للنفس الأمّارة، و فتحُ الآفاق للنفس المطمئنة (رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوعُ والعطش).

ورمضانُ شهرُ القيام.. وقيامُ الليل شعارُ الصالحين من هذه الأمة، ومن أول ما كُتِبَ على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عوناً على القيام بحقّ الرسالة (يا أيها المزّمّل، قم الليلَ إلا قليلا، نصفَه أو انقُصْ منه قليلاً، أو زدْ عليه، ورتل القرآنَ ترتيلا).

وصلاةُ التراويح شَعيرةُ رمضان، وفي أدائها في المساجد مع الجماعة، تعظيمٌ لشعائر الله، وتكثيرٌ لسواد القائمين القانتين. وصلاةُ التهجّد في ساعاتِ السَّحَر، من الخير الذي ينبغي أن لا يفوتَ مسلماً في هذه الأيام النضِرات.

ورمضانُ شهرُ القرآن.. وكان جبريلُ عليه السلام يراجعُ القرآنَ مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ ليلة في رمضان، فطيّبوا نفوسَكم وقلوبَكم وألسنتَكم بتلاوة القرآن، وتدبّر آياته، والوقوفِ عند معالمه وحدوده، وتعهّدوا أهليكم وأبناءَكم وبناتِكم، بقراءته وفهمه، والوقوف عند حدوده.. وليتضاعف الوردُ القرآنيّ في رمضان، والله يضاعفُ لمن يشاء، فإنه (من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقولُ: ألف لام ميم حرف.. ولكنْ ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف).

ورمضانُ شهرُ الدعاء الذي هو مُخّ العبادة.. وهو تكليفٌ من الله عز وجل، ليُظهِرَ العبدُ حاجتَه إلى مولاه، وثقتَه به (وقالَ ربكم ادعوني أستجبْ لكم، إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنمَ داخرين)، فما أحوجَنا إلى الإكثار في هذا الشهر من الضراعة والدعاء، وتدبّر قولِ الله عز وجل في سياق آيات الصيام: (وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب، أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)، وقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عندَ فطره لدعوةٌ ما تردّ). فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، أن يكشفَ الكرب، ويفرّجَ الغمّة، وأن يعزمَ لهذه الأمة أمرَ رشد، يعزّ فيه أهل طاعته، ويذلّ فيه أهل معصيته، ويؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر.. ولا ننسى أنّ الدعاءَ من سهام السحَر ( ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعملُ الظالمون، إنما يؤخّرُهم ليومٍ تَشخَصُ فيه الأبصار، مهطعين مُقنِعي رؤوسِهم، لا يرتدّ إليهم طرفُهم. وأفئدتُهم هواء..)

ورمضانُ شهرُ الجود والكرم والمواساة.. وكان سيدنا وقدوتنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، و(كان أجودَ الناس, وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان، حين يلقاهُ جبريلُ عليه السلام, وكان يلقاهُ كلّ ليلةٍ في رمضان، فيدارسُه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه و سلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة). فرمضانُ فرصةٌ للتخلّصِ من الشُحّ الذي جُبِلت عليه النفوس، لنُخرِجْ زكاةَ أموالنا طيبةً بها نفوسُنا، ونضعها بين يديْ إخوتنا، لينفقوها في مصارفها الشرعية، حسبَ أولويّاتها، ونضيفُ إليها ما تجودُ به النفوسُ من صدقاتٍ وتبرّعات، فإنّ في المالِ حقاً سوى الزكاة، لنُسهِمَ جميعاً في حمل الأعباء الكبيرة، تجاهَ إخواننا وأسرهم من الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمشرّدين، وندعمَ مسيرةَ العمل والبناء. والجودُ لا يُشترَطُ أن يكون عن سَعَة، فقد (سبقَ درهمٌ مائةَ ألف درهم).

ورمضانُ شهرُ الأخوّة والمحبة والتراحم.. ومناسبةٌ كريمةٌ لتصفية القلوب حتى لا يبقى فيها غِلّ على أحد، وفرصةٌ للتخلّص من رواسب الاختلاف والفرقة والانقسام، فنجدّد أواصرَ المحبة في الله، متجاوزين كلّ نزَغات الشيطان، إرضاءً للرحمن. ولْنحذَرْ أن نكونَ من الأشقياء المحرومين، في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، حيث يتجلّى الله عز وجل على عباده (فينظرُ إليهم، ويغفرُ لهم، ويعفو عنهم، إلاّ أربعة، قالوا: من هم يا رسول الله؟. قال: مدمنُ خمر، وعاقّ لوالديه، وقاطعُ رحم، ومشاحن).

أيها الإخوة الأحبة والأخوات.. يا أبناء شعبنا في سورية الحبيبة.. يُقبِلُ علينا هذا الشهرُ الكريم، وشعبنا المصابرُ ما يزالُ يرزَحُ تحتَ نير القمع والتسلّط والفساد والاستبداد، فلنذكرْ في هذا الشهر الكريم معاناةَ المقهورين من إخوتنا وأهلينا وأبناء شعبنا، داخلَ الوطن الحبيب وخارجَه، مدركين أنّ العملَ لنصرتهم واستردادِ حقوقهم، واجبٌ شرعيّ ووطنيّ وإنسانيّ، وإنّ من حقّهم علينا أن نحملَ قضيّتهم, ونرعى أسرهم، ونقومَ بواجبنا تجاهَهم، فالمؤمنُ للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضُه بعضا، فقضيتُهم هي قضيتنا جميعاً، قضيةُ الحرية المسلوبة، والكرامة المهدورة، والحقوق المنتهَكة، قضيةُ معاناة الملايين داخلَ الوطن وخارجَه، وهي تحتاجُ منا إلى استشعارٍ للمسئولية، واستنهاضٍ للهمم، ونبذٍ للخوف والتردّد، وإلى المزيد من التعاون والتضحية والبذل، لنقفَ جميعاً صفاً واحداً مرصوصاً، في مواجهة التحدّيات..

أيها الإخوة والأخوات.. في الختام أسألُ الله عز وجل أن يوفقنا لحسن استقبال هذا الشهر الكريم، والتعرّضِ لنفَحاته وبركاته، وعندئذٍ يحقّ لنا أن نفرحَ في عيد الفطر يوم الجائزة. (قلْ بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون).

وإلى رسالةٍ قادمةٍ - بإذن الله - أستودعُكم الله، ولا تنسَوْني من صالح دعواتكم في هذا الشهر الكريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  لندن في 27 من شعبان 1429 الموافق 28 من آب (أغسطس) 2008

أخوكم: أبو أنس

علي صدر الدين البيانوني

المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية