المعادلات الإيمانية لملحمة الصمود والعز الغزاوية
المعادلات الإيمانية لملحمة الصمود والعز الغزاوية
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
إن ملحمة الصمود الأسطوري التي يعيشها أهلنا في غزة بمختلف فئاتهم ومواقعهم، سواء كانوا ممن أيديهم على الزناد ــ شد الله أزرهم ــ هذه الأيدي المتوضئـة المباركة ، التي تكسرت على عتبات ثباتها نصال الغدر الصهيونية ونصال التخذيل والإرجاف من بعض ذوي القربى ــ إن كانوا من ذوي القربى ــ ، وأخلطت بفضل نورها ونارها كل السياسات والخطط التآمرية التي حيكت للقضية وللمنطقة وللأمة ، وأرجعت القضية إلى السكة بعد محاولات الانحراف بها عن طبيعتها ووجهتها الصحيحة، أو كانوا من البقية الباقية من النساء والأطفال والرجال الذين يحتضنون المقاومة وجنودها وقادتها فهم كذلك لا يقلّون قيمة عن الصف الأول بصبرهم وجلدهم ومصابرتهم وتعاليهم عن الجراح والمآسي رغم المذابح والدمار الذي يتعرضون له في كل حين، فالملحمة يصنعها الجميع في غزة الإباء، وقد استطاعوا أن يحققوا مالم تحققه دول بجيوشها وعدتها وعتادها.
والمتابع لكل ذلك والمتأمل فيه بعمق، يجد أن ملحمة الصمود الغزاوية هذه بكل عناصرها ومكوناتها، لم تأت من فراغ أو كانت مجرد صدفة أو ضربة حظ ، إنما ولدت من رحم جملة من المعادلات الإيمانية المهمة التي كانت حاضرة بقوة لدى الجميع ولعل أهمها:
1 ــ رفعة المقام عند الله بقدر الثبات في الميدان الذي يحب:
هذه المعادلة مفادها أن السعي إلى رفعة المقام والمكانة عند الله لا تكون بالإدّعاء ولا بالأمنيات بقدر ما تكون بالتواجد في المقام الذي يحب سبحانه، والثبات في الميدان الذي يريد، تحقيقا لقاعدة ابن عطاء الله السكندري رحمه الله:((إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فأنظر فيما أقامك))، ولا أشرف من مقام الجهاد والرباط والشهادة عند المولى عز وجل.
2 ــ الحرص على عبادة الوقت والتمسك بها:
فلقد فقهوا الزمان والمكان، وعلموا أن العبادة التي تتناسب وكل ذلك ــ وهي مقدمة على كل أنواع العبادات وفق هذا الميزان ــ هي عبادة المقاومة والمواجهة والجهاد في سبيل الله، والمرابطة على الثغور، أما الاقتصار على ما دون ذلك من العبادات في ساحتهم وفي ظروفهم فهو اللعب بعينه تطبيقا لقاعدة عبد الله بن المبارك في رسالته إلى الفضيل بن عياض رحمهما الله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخـضـب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما وصلت الرسالة إلى الفضيل ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني.
3 ــ المرابطة على الثغور مقدّم على ما سواه في الفضل:
وهي معادلة حاضرة في أذهان كل أبناء غزة منذ البداية، حتى قبل انطلاق العدوان السافر، وهي مجسدة في الميدان عمليا ويتسابق الجميع بما في ذلك القادة على نيل شرفها وفضلها، منطلقهم قاعدة أبو هريرة رضي الله عنه:((لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود))، وقاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:((المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة))، وقبل ذلك كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم :((حرس ليلة في سبيل الله تعالى أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها))(رواه احمد والترمذي والحاكم وصححه).
4 ــ الكرامة أو الشهادة(الصدر أو القبـر):
فلسان حالهم ومقالهم جميعا يقول إما أن نعيش كراما غير أذلة، وإما أن نموت شهداء أعزة، فلا توسط لديهم في هذا الأمر على وجه الخصوص كما قال الشاعر العربي قديما :
نحن قوم لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
إما أن نكون عظاما(من العظمة) على أرضنا نرفض الهوان والذل ، وإما أن نكون عظاما(من العظم)تحت هذه الأرض الطيبة، لا مجال عندهم للانحناء أو الركوع لأعدائهم لأنهم يستحضرون الحكمة القائلة:((لن يستطيع احد أن يركب ظهرك إلا إذا وجدك منحنيا))، تأصيلا لمعادلة الصمود والعز ومن ثم التحرر إن شاء الله.
5 ــ من يحسن صناعة الموت توهب له الحياة:
الموت في سبيل الله أسمى الأماني ليس شعارا يتردد لديهم في المحافل والتجمعات والمسيرات، وإنما يمارس فعليا في الميدان، ويتزاحم الكل ويتسابق تنفيذا وتحقيقا له، لأن من يحسن ويعرف كيف يموت الموتة الشريفة في سبيل الله يهب الله في مقابلها لدينه ولأمته ولفكرته الحياة والنصر والتوهج والانتشار، فيكون بذلك وقودا للتمكين، وهي المعادلة التي حفظوها عن الإمام حسن البنا رحمه الله من قوله ومن فعله كذلك:((إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، وأعلموا أن الموت لابد منه وأنه لن يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم...)).
6 ــ الدماء غالية في ميزان الله:
وهي معادلة تطمئن أهلنا في غزة وهم يعلمونها أكثر منا، أن هذه الدماء التي تنزف قيمتها لا تقدر بثمن عند الله عز وجل، وهي عربون لجنة عرضها السموات والأرض، وهي كارت أخضر لكل من سالت منه في سبيل الله ليلج بها إلى النعيم الدائم سواء كانت نتيجتها الشهادة أو كتب لصاحبها الحياة بعدها، مصداقا للقاعدة التي سطرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:((ما من مكلوم يكلم(يجرح) في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه (جرحه) يدمى اللون لون دم والريح ريح مسك))(متفق عليه).
وأن هذه الدماء الزكية الطاهرة مع طمي الدمار تشكل السماد الذي يغذي شجرة الحرية والنصر والإنعتاق بإذن الله.
7 ــ إدراك فضل الشهادة يدفع إلى التسابق لنيلها:
إن نيل شرف الشهادة وسام يصطفي الله إليه به من يحب من عباده، لذلك هم يتنافسون عليها لإدراكهم حسن عاقبتها، كما جاء في البشرى النبوية:((إن للشهيد ست خصال، أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلة الإيمان، ويزوّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه))(رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب).
8 ــ القبول في الأرض نتيجة القبول في السماء:
وهي معادلة تصدقها الهبة الجماهيرية في كل أقطاب المعمورة بمسلميها وغير مسلميها دعما لهم ونقمة عن عدوهم وهتافا باسمهم وتضامنا مع ضحاياهم وفضحا للمتواطئين عليهم، أبطلت كل أساليب الدعاية الصهيونية، وأخرست ألسنة كل المخذلين والمتآمرين، هذا القبول الذي كتبه الله لأهل غزة في العالمين رغم قلة حيلتهم، وضعف إمكانياتهم هو نتيجة فعلية لحب الله لهم وحب ملائكته، كما جاء في الحديث :((إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض))(البخاري).
كما أن الله عز وجل سينتقم لهم عاجلا أو آجلا من كل من خذلهم، أو تواطأ عليهم، أو سكت عن مأساتهم، أو تقاعس عن مناصرتهم، فقد جاء فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه قوله:((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله أو آجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل))(الطبراني في الأوسط والبزار)، وقال صلى الله عليه وسلم :((من خذل أخاه في موطن وهو يقدر على نصرته، خذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة))(رواه أحمد).
9 ــ إحيـاء الروح الأشعريـة:
وقد تواترت الأنباء عن تمثل هذه المعادلة في غزة بانتشار صور التضامن والتكافل وتقاسم القوت والمأوى بين أهلها، محيين بذلك الروح الأشعرية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في غناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ))(متفق عليه).
10 ـ الأزمات تلد الهمم:
حيث أن الأزمات المتتالية التي تعرّض لها أهل القطاع نتيجة الحصار الخانق الذي يتعرضون له ظلما وعدوانا من ذوي القربى خاصة، والذي مسّ لديهم كل شيء إلا كرامتهم وشموخهم، وقبل هذا العدوان الصهيوني المتكرر وجرائم الاحتلال التي لم تتوقف ضدهم، كل ذلك وغيره ولّد لديهم قدرات هائلة من التحدي والإبداع في ابتكار الوسائل المناسبة لمواجهة هذه الأزمات والتعامل معها، ولم يستسلموا لإرادة عدوهم وعرّابيه في المنطقة من خلالها، ويبقوا مكتوفي الأيدي مكبّلي المبادرة ينتظرون فقط ما يقرره هذا العدو والمتواطئون معه نحوهم، فكانت فكرة الأنفاق لكسر الحصار الظالم وتوفير مستلزماتهم المختلفة من ناحية، ومن ناحية أخرى توظيفها التوظيف الأمثل من طرف المقاومة كوسيلة مهمة من وسائل المواجهة في الحرب مع العدو والدفاع عن الأرض والعرض.
كما أن هذه الأزمات المختلفة والمتتالية ضاعفت من إرادة المقاومة في غزة وعملها على تطوير قدراتها التسليحية والقتالية ــ رغم الحصار ــ بما عجزت عنه جيوش دول محترفة وتملك قدرات مالية ضخمة خاصة في المنطقة العربية، وهو ما أبهر المتتبعين وحيّر وفاجأ العدو الذي وجد نفسه يخطئ في تقديراته لقدرات هذه المقاومة الغزاوية الباسلة خاصة بعد مفاجآتها المتتالية والنوعية التي فاجأت بها عدوها في هذه الحرب غير المتكافئة.
وهو ما يجعل الغزاويين ـ شعبا ومقاومة ـ خير من يجسّد عمليا مقولة الأفغاني المشهورة:((إن الأزمة تلد الهمة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق...))، ويثبتون صحتها ووجاهتها في الميدان، حيث برهنوا على أن ما يظهرونه من همم عالية وإرادات فولاذية منتجة ومبدعة وفعالة وإيجابية، ما هو إلا وليد للتحدي الذي كان نتيجة الأزمات التي تهد الجبال والتي فرضها عليهم عدوهم ومساندوه والمنحازون له في العالم وفي المنطقة، إضافة إلى ثقتهم الكبيرة بربهم، وإيمانهم المطلق بعدالة قضيتهم.
هذه عشارية من المعادلات الإيمانية المستنبطة من ملحمة الصمود والعز التي يسطّرها أبطال غزة الشموخ نيابة عن الأمة جمعاء، هؤلاء الأشاوس الذين عرفوا طريقهم وحدّدوا هدفهم بوضوح، وهم يضحون ويعملون جاهدين على الوصول إليه رغم كل المؤامرات، ورغم ما يجدون من عنت في سبيل ذلك، واثقين من تحقيق وعد الله لهم، مؤمنين أن من عرف ما يطلب هان عليه ما يجد.