تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن 3
المقال الثالث من
تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن
من المنافقين والكفار وأهل الكتاب
وضعاف الإيمان من المسلمين
د.عثمان قدري مكانسي
من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
سورة النساء(1)
[ الآيتان 78- 79 ]
( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )
في هاتين الآيتين الكريمتين وقفات هي :
1 - أن الموت حق على المخلوقات لا ينجو منه أحد.
2- أن المسلمين من ضعاف الإيمان وإن كانوا لا يستطيعون أن ينسبوا إلى الذات العلية إلَّا كل خير فإنهم ،وإن كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتسبوا شفافية الروح وعمق الإيمان، فالشفافية وعمق الإيمان رزق من الله تعالى، فهم يتجرؤون على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيتهمونه زوراً- أنه سبب بلائهم من الناس، إذ طلب إليهم الجهاد في كل جهة، والمشركون من حولهم، وكأنه يرمي بهم إلى الموت.
3- أن على كل مسلم مؤمن بالله تعالى أن يعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلَّا الله تعالى، فهو سبحانه خالق الضّرِ والنفع وبيده مقاليد الأمور، فالمؤمن الحق لا يتهم الدعاة المخلصين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بهم.. فكل ما يصيب المؤمن يرفع درجاته ويعظم له أجراً.
4- أن من يرفع عقيرته فيتهم أولياء الله والدعاة إليه إنما يتهم نفسه بضعف العقل وقلَّة الفهم، بل إنهم لا يكادون يفقهون ما يُلقى إليهم من الآيات التي تعزو كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر لعلم الله.
5- وأن من يجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخلصين الدعاة إلى الله، يشير إلى نفسه بضعف الإيمان، وإلى الناس بان يحذروه، ويشكوا فيه.
6- وأن التجريح برسول الله r ، والتشاؤم به، والتطير به وبمن يسير على طريقته، وصمٌ لهؤلاء المتشائمين بالضلال والانحراف والبعد عن الدين.
ومن جاءهم بهذا الدين؟! أليس هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يتشاءمون به ويتطيرون به وينسبون إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به من عصمة ورحمة وخلق عظيم ويُمنه وبركة؟!! فأقل ما يوصمون به النفاق والمروق من الدين.
7- أن الحسنة من الله تصيب الإنسان حين يلتزم بشرع الله تعالى ويعمل به ويُحكِّمه في حياته، وأن السيئة تصيب الإنسان حين يبتعد عن شرع الله، فيظلم نفسه ويتيه في دياجير الشك والفساد.
8- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبلِّغ أمر ربِّه، ويدعو إليه وفق شريعة الله، وكان من الواجب أن ينظر إليه أنه هادٍ بذل نفسه لله ولا يسأل الناس أجراً على ما يفعل (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر)ٍ فالشؤم أبعد ما يكون عنه، والطيرة أبعد ما تكون عنه وهل رأيت عقلاء يتطيرون بمن يفتح عقولهم وقلوبهم إلى الخير والهدى.. إن يكن الناس جحدوا فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله شاهد على حسن أداء رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسالة، وكفى بشهادة الله للنبي فخراً، ولمن يسير على دربه عِزَّاً.
إن الموت الذي يفرُّ منه الإنسان مُدركه، ولا علاقة له بسلم أو حرب، فالكثرة الساحقة من الموتى. انتهت حياتهم على فراشهم، لا يؤخر الموت بُعْدٌ عن ساحة المعركة ولا يُقرِّبهُ خوضها.. وما أعظم أن يتمثل المسلم بقول خالد رضي الله عنه: لقد خضت زهاء ثمانين معركة وما في جسمي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح.. وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34( (1) .
لكن ضعاف العقل، ضعاف التفكير، يحسبون خوض المعارك دنواً من الموت فهم لا يريدونه، ويصبُّون جام غضبهم على من يدعوهم إلى القتال.. ويعتبرونه أسَّ المساوىء.. والقرآن يدعوهم إلى الجهاد ولكنهم لا يرون فيه سوى إزهاق الأرواح وكأنهم لا يموتون، ولن يموتوا،
وتناسوا القضاء والقدر، والفاعل الحقيقي في الموت والحياة، الله تعالى.
وتناسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول الله لا يُحْدث ولا يُنْشىء ولا يشارك الله تعالى في مسؤولية أو ألوهية.. إنه يُبلِّغ ما يأمره الله به، فطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله.
والمؤمنون الأتقياء هم الذين يعرفون فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوبهم ثانياً، أمَّا أولاً فمكانته عند الله لا تدانيها مكانة.
ماذا عن الطِيَرَةِ؟ إن العربي قديماً كان إذا أراد أمراً أمسك طيراً ثم رماه إلى أعلى فإن طار يميناً تفاءل وإن طار يساراً تشاءم وتطيّر، وهذا يدل على جهل.. فما علاقة الطير وطيرانِه يميناً وشمالاً بالأمر الذي يريده أحدهم.. إنها الأوهام والأساطير التي يبني الناس حياتهم ومعتقداتهم
عليها..
والإيذاء الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَطَيُّرِ ضعاف الإيمان واليهود، هو، هو الذي لحق بموسى من قبل ( فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (1) .
فملة الكفر واحدة والتفكير الجاهلي واحد، والتعليل الجاهلي واحد، فإنما ينطلق الجميع من أهوائهم وخرافاتهم .. إن يد الله منعت عن فرعون وقومه الخير ( ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (2) ، ولكنهم لا يدركون أن الله تعالى أراد عقابهم لجمودهم وكفرهم وأرسل عليهم إذلالاً لهم وجزاءً - على كفرهم- وفاقاً- أرسل الطوفان- والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات.. فهل ثابوا وتابوا ورجعوا إلى ربهم؟!.. كلا.. وأنَّى لهم أن يرجعوا وهم أصحاب القلوب الجوفاء، والأفئدة الصم التي طبع الله عليها بسبب ضلالهم وكفرهم..
والقول واحد في هؤلاء المُتَطيِّرِيْنَ.. في كل زمان ومكان. فهؤلاء أصحاب القرية يتطيرون بثلاثة من الأنبياء :
( إنا تطيرنا بكم.. ). (2) فيرد عليهم أنبياؤهم موضحين أن
كفرهم وعنادهم سبب الشؤم والتطير ( قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (3) لأنهم أسرفوا في العناد والكفر.. ومادوا في الضلال.. إنها مسيرة التاريخ، والأسباب تؤدي إلى النتائج.. من عمل خيراً فلنفسه ومن أساء فعليه
(1) سورة الأعراف: الآية 34.
(1) سورة الأعراف: الآية 131.
(2) سورة الأعراف: الآية 130.
(2) سورة يس: الآية 18.
(3) سورة يس: الآية 19.