من أدركه رمضان ولم يغفر له لا غفر الله له
كثيرا ما يذكر الخطباء والوعاظ والدعاة المصلين بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعاء أمين الوحي جبريل عليه السلام والذي جاء فيه أن من أدرك أحد والديه ولم يغفر له لا غفر الله له ، ومن حج ولم يغفر له لا غفر الله له ، ومن أدركه رمضان ولم يغفر له لا غفر الله له . وعند تأمل هذه الأحوال الثلاثة نجدها عبارة عن فرص ثمينة إذا ما ضاعت لا تعوض أبدا لأن من فرط في الإحسان إلى والديه وهما حيان فلا يمكنه استدراك ذلك بعد موتهما . ومن ضيع فرصة العودة من حجه كيوم ولدته أمه فلن يعوضها أبدا . ومن ضيع فرصة توبة شهر الصيام فلن يدركها أبدا خصوصا إذا لم يبلغه الله عز وجل فرصة رمضان مقبل . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل أن يبارك له شعبان، وهو شهر تعرض فيه الأعمال على الله عز وجل وأن يبلغه رمضان لأنه فرصة التوبة النصوح، وربما تكون آخر فرصة أمام الإنسان في حياته خصوصا إذا ما كانت فرصة البر بوالديه قد فاتته أو فاتته فرصة الحج المبرور . وبيان أن من أدركه رمضان ولم يغفر له لا غفر الله له أن من صام وقام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . ومعلوم أن القيام عبارة عن استعراض للقرآن الكريم في ليالي رمضان . والقرآن رسالة الله عز وجل للبشرية تتضمن إنذارا وبشارة بين يدي الساعة ونهاية العالم ، وهي نهاية أوشكت أن تحل، والمؤشر على ذلك بعثة آخر الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قرن ذات يوم بين سبابته والوسطى قائلا : " بعث أنا والساعة كهذين " في إشارة إلى اقتراب نهاية العالم . والمفروض في استعراض رسالة الله عز وجل للبشر في رمضان أن يعرض هذا البشر أنفسهم عليها لقياس المسافة التي تفصلهم عن هديها ولتصحيح ما بهم من انحراف عن جادتها . ومعلوم أن وظيفة هذه الرسالة هي هدي الناس للتي هي أقوم مصداقا لقول الله تعالى :(( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما )) . ولفظة أقوم عبارة عن صيغة مبالغة من فعل قام يقوم إذا استوى واعتدل . والقوام ـ بفتح القاف ـ عدل ـ وبكسر القاف ـ نظام . والتقويم تصويب وتسديد . والقيم هو المستقيم الذي لا ميل ولا عوج فيه . والقائم هو الحريص والمواظب لقوله تعالى : (( من أهل الكتاب أمة قائمة )) . ويصف القرآن الكريم الرسالات السماوية بأنها كتب قيمة ، ويصف دين الإسلام بأنه دين القيمة . وفي فاتحة الكتاب دعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم . والقيوم اسم من أسماء الله الحسنى يعني أنه قائم بنفسه، ومكتف بذاته، وقائم على كل شيء تدبيرا وتقويما . والقيامة يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين ، وفيه تقوم أعمالهم . ومعلوم أن التي هي أقوم وهي وظيفة القرآن الكريم رسالة الله عز وجل للخلق تشمل كل مجالات الحياة وكل آفاقها . والحياة إنما يخاض غمارها بالتي هي أحسن، وهي التي تجعل الحياة كريمة وسوية ،وتفضي إلى حسن المآب بعد نهاية الحياة الدنيا وبداية الأخرى أو يساء خوض غمارها تنكبا للتي هي أحسن، فيكون الشقاء في الدارين دار العمل والسعي ودار الجزاء . وشرحا للتي هي أقوم لا بد من طرق مجالات الحياة وآفاقها المختلفة، ذلك أنه في كل مجال، وفي كل أفق يوجد الأقوم أو المستقيم كما يوجد المنحرف والمعوج والمائل . فالتجارة والصناعة والفلاحة والزراعة والوظيفة والعلاقات المختلفة ... إلى غير ذلك فيها التي هي أقوم، وفيها ما دون ذلك . والقرآن الكريم إنما يهدي للتي هي أقوم لأن الله عز وجل لم يخلق الكون ولا الخلق عبثا، ولم يهملهم بل تعهدهم بعنايته ورعايته، ومن رعايته وعنايته أن سطر لهم في رسالته إليهم ما يهديهم للتي هي أقوم في حياتهم وهم يسعون مختلف سعيهم فيها ، وهم يتواصلون، ويتعاملون فيما بينهم في مختلف المعاملات .والإنسان المسلم حين يستعرض رسالة السماء في شهر رمضان إنما يعرض نفسه على التي هي أقوم، ويكون بذلك في دورة تكوينية سنوية . فحين يستعرض الإنسان الأوامر والنواهي في رسالة السماء ينزلها على واقعه الشخصي ، وحياته الخاصة، فيعرف درجة ائتماره بالأوامر ودرجة انتهائه عن النواهي ، ويكون حين يأتمر وحين ينتهي صادقا محتسبا في حكم التائب توبة نصوحا، لهذا يحوز جائزة المغفرة بعد انتهاء رمضان ،وانتهاء استعراض رسالة السماء .ولقد هيأ الله عز وجل للمسلمين فرصة عجيبة لاستعراض رسالته حيث جعل وقت استعراضها في أول الليل وآخره، والليل بطبيعته وقت سكون وهدوء يسهل فيه الاستيعاب والفهم والتدبر . وهو وقت لا ينشغل فيه مستعرضو الرسالة السماوية بسعي من أجل قوتهم ومعاشهم نهارا، ولا يشغلهم جوع أو عطش بسبب الصوم . وبالإضافة إلى زمن الليل هيأ الله عز وجل ظرفا خاصا لاستيعاب رسالته حيث فرض تلاوتها في صلاة . والصلاة عبارة عن انقطاع عن كل ما يلهي عن الخالق سبحانه مع التوجه إليه . ويمر الإنسان أثناء الصلاة بحالة نفسية خاصة يعبر عنها بالخشوع، وهي حالة تتسم برهافة الحس وشدة التأثر، الشيء الذي يساعد على حسن استعراض رسالة السماء من أجل إدراك جيد لوظيفتها ،وهي وظيفة الهداية للتي هي أقوم . فرب شارب خمر أو زان أو مقامر أو مراب أو مرتش أو نمام أو ظالم أو كاذب ... أو غير ذلك حين يعرض نفسه على التي هي أقوم في رسالة السماء يعي جيدا بعده عن الجادة والصواب ، فيعود ويؤوب إليها، فيكون بذلك تائبا من ذنبه قد أدرك رمضان فاستفاد من فرصة المغفرة . والمفروض في كل الذين أحيوا ليالي رمضان مستعرضين فيها القرآن الكريم وعارضين أنفسهم على التي هي أقوم أن يصححوا ما بهم من انحراف أو ميل أو بعد عنها. ومن استعرض رسالة السماء طيلة شهر كامل ولم يصحح ما به من انحراف فهو في حكم المصر على ذنبه وخطئه لا في حكم التائب منهما، وليس له في هذه الحالة من القيام إلا السهر والتعب، بل هو في حكم الحمار الذي يحمل أسفارا، وقد حمل ما في الرسالة ولم يحمله . ومن سوء الفهم وسوء الاستيعاب و سوء التدبر أن تكون الغاية من استعراض رسالة السماء في رمضان قاصرة على مجرد سماعه والطرب لذلك دون تنزيل مضامينها على واقع المستعرضين لها والتأثير فيه وتحويله من واقع الانحرافات إلى واقع التي هي أقوم .ومن المؤسف جدا أن ترتفع دعوات للدفاع عن الانحرافات بالتزامن مع شهر الصيام الذي خصص لاستعراض التي هي أقوم في لياليه . ومن الانحرافات التي أشهرت في رمضان، وانتصر لها دعاة الانحراف الدفاع عما يسمي حرية الشذوذ الجنسي أو ما يسمى المثلية ، والدفاع عن حرية لبس الصاية الكاشفة أو السفور وشبه العري . وإذا ما عرضنا دعوة المثلية على رسالة السماء نجد التي هي أقوم اقتران جنس الذكور بجنس الإناث وفق الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها، بينما نجد المثلية تنكبا للتي هي أقوم وتبديلا لخلق الله عزوجل . وما قيل عن المثلية يقال عن الصاية الكاشفة ، وهو لباس إبداء ما خفي من زينة الأنثى ومفاتنها . ومعلوم أن التي هي أقوم في لباس الأنثى المسلمة هو أن تدني عليها من جلبابها ، والجلباب ليس لباسا داخليا ولا حاسرا ولا شفافا ولا مجسدا ... وأن تضرب على جيبها أو صدرها بخمارها ، وألا تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها وألا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وهو شبه عري كما جاء في كتب التفسير .و تنكب التي هي أحسن في لباس الأنثى المسلمة هو التبرج والكشف عن الزينة الخفية والصاية الكاشفة والمجسدة والشفافة التي صارت مطلبا في بلد إسلامي بذريعة حرية اللباس . وإذا ما استعرضنا كل الدعوات الهادفة لنشر مختلف الانحرافات، وعرضناها على رسالة السماء الهادية للتي هي أقوم تبين لنا أنها تستهدف التي هي أقوم ومن ثم تستهدف الرسالة السماوية في حد ذاتها لتحل محلها دعوات الفساد في الأرض . والمؤسف جدا أن يتم تسويق الفساد بذريعة الدفاع عن الحريات وتحت شعارات فارغة مدغدغة للمشاعر المندفعة والمفتقرة لسلطان العقل والمنطق . وأخيرا نقول مرة أخرى من أدركه رمضان، وهو شهر استعراض رسالة السماء الهادية للتي هي أقوم ولم يهتد ولم يغفر له لا غفر الله له.
وسوم: العدد 625