" الجنون " 17

المقال السابع عشر

ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء  على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..

الجنون في اللغة: زوال العقل، وكل ما اشتق من (جنّ) فعلٌ دلَّ على الاستتار.

فالجَنَّةُ: مأوى المؤمنين في الآخرة، لا نراها فهي مستورة عن إدراكنا البصري.

الجانُّ: مخلوقات تعيش بيننا، لا نراها.

الجَنين: من كان في بطن أمه، لا تراه أعيننا.

المَجِنُّ: الترس الذي يقينا ضربات السيوف وطعنات الرماح.

وجعل الكافرون للداعية العظيم محمد صلى الله عليه وسلم نصيباً من صفة الجنون، ولا يضيره فالله تعالى برّأه مما قالوا: ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) (1)  .

 فتعالوا معي نستعرض افتراءات الكافرين  بهذه الصفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أولاً: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كان الذي يأتيك رِئِيّا بذلنا لك حتى تبرأ.. إذاً فالنبي- بزعمهم- يتراءى له جني ،فتختلط عليه الأمور فيتكلم بما لا يعرفون..

 وهذا أمر عجيب من وجوه كثيرة منها:

1- أن كثيراً من قبائل العرب كانت تعبد الجنَّ ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ   )(1)  .

 فكان أولى بهم أن يتبعوه صلى الله عليه وسلم لأن آلهتهم التي يعبدونها أكرمت!! محمداً!!! فهي تتراءى له.

وعلى الرغم من أن هذا الزعم باطل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم برأه الله تعالى من هذا الافتراض فقال سبحانه: ( مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم) (2)  وجعلوا له قريناً من الجنِّ.

2- والجن والشياطين أعداء للبشر. هذا ما قاله أبوهم إبليس:  ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (3)  فإذا كان الجن يتراءى له، فكيف يأمره بالإخلاص في عبادة الله، ومكارم الأخلاق؟ وكيف يأتيه بشريعة عظيمة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها،

إن الرجال الذين يتعاملون مع الجن ينالهم الأذى منهم، ويصرعون، ويهرفون بما لا يعرفون    ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (1)  ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم  فكان على خلق عظيم شهد به الأعداء الكافرون قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فهو الصادق الأمين. وهل يكون من يأتيه الجن كذلك؟!!.

3- ومن العجيب أنهم يقولون   ( مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ(  (2) ، فهناك مِن الجن من يعلمه! أفلا سالوا أنفسهم: إن كان هذا حقاً فلِمَ لم يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا العلم؟ وكثير من العرب يعبدون الجن، ولبعضهم معهم الكثير من العلائق؟!

إن العرب جميعاً من القدم وحتى الآن يعجزون أن يأتوا بمثل هذا القرآن وهؤلاء الجن بين أظهرنا.. أفلم يظهر- على حد زعمهم- جنيّ فذٌّ عبقري يعلمهم ما تعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! إنه الافتراء العظيم والكذب المبين!!

إنَّ هذا القرآن من عند خالق البشر والجان (  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (3)  .

لكن الكافر حين يريد التفلُّت من التكليف يرمي الصادقين بما ليس فيهم، ويفتري عليهم دون إثبات، وليس لهم قدرة على الوقوف أمام الحق، لذلك تراهم يتّهمون رسول الله بالتعامل مع الجن وينتظرون موته ليتخلصوا منه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (1)  .

بل إن الله ليفضحهم فيخرج ما في نفوسهم ويعرّيهم، فهم يكرهون الحق فيؤذون صاحبه:        (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (2) .

ثانيا: وصفوه عليه الصلاة والسلام بالجنون ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ)   (3)    وهذا ساقط من وجوه عدة أذكر

منها:

ا- أن هذه الأسطوانة مكررة، سمعها الأنبياء عليهم الصلوات والسلام من كفارهم كثيراً، وليس

رسول الله-صلى الله عليه وسلم-   بدعاً من الرسل- فهو صلى الله عليه وسلم  وإخوانه الأنبياء

يَصدرون عن مشكاة واحدة فلا غرو أن يصيبه ما أصابهم من تعنت الكافرين، فهذا فرعون يقول لأتباعه والأذلاء مِن حوله معرضاً بموسى عليه السلام  ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)  (1)    ولماذا يصفه إذ ذاك بالجنون؟! ولماذا- حين شعر أن ثوب الألوهية المزيف سقط عنه- رمى موسى بالجنون؟ إنه أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان.. وما أكثر ما نراه في هذه الأيام الرديئة. حين نرى الفسقة والمجرمين ممن يَلُون الأمور يرمون المسلمين بالسّفه، وضعف العقل، وعدم مسايرة ركب الحضارة... والجنون!!!.

2- لم نر مجنوناً جاء بعلم أو شريعة أو قاد عقلاء، إلَّا أن يكونوا مجانين مثله، أو لا حول لهم ولا قوة، بالقهر والإرهاب!!، ولم يكن المجنون يوماً من الأيام صاحب مبدأ.. فالمبدأ في العقل، وأين منه العقل؟!! إنك تراه مرة يضحك دون سبب ويبكي دون سبب، يفعل بنفسه ما لا يفعله به العدو، لا وقار له ولا حلم، سقطت عنه التكاليف فلا يسأل عما يفعل.. ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنوناً- وحاشاه ثم حاشاه- ما جاءوا إليه يعرضون المال، والرياسة، والنساء، والملك.. فالمجنون على حدّ زعمهم لا يخشى منه فلماذا يخشون من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟..

إنهم يكذبون ويكذبون، ويسيئون ويؤذون.. كي يتخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، ويتركهم يعيشون على هواهم كما تعيش الأنعام ،لكنه رسول.. والرسول عليه أن يدعو

إلى الله ويتحمل أذى المشركين  ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (1) .

ويصرون على أنه مجنون ،وينظرون إليه صلى الله عليه وسلم بغضب ويتمنون انزلاقه وسقوطه ويأبى الله إلَّا أن يرفع شانه.

( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (2) .

3- لم يسمع التاريخ بمجنون هو عند قومه الصادق الأمين، يودعون عنده الودائع، ويستشيرونه في ملمات الأمور،ويعتبرونه في الذروة من الشرف فيهم ويقرّون بفضله، ويُحَكِّمونه فيهم (رفع الحجر الأسود)ويزوجونه خير نسائهم، صلَّى الله عليه وسلّم.

(1) سورة التكوير: الآية 22.

(1)   سورة الأنعام: الآية 100.

(2)   سورة سبا: الآية 43.

(3)     سورة ص : الآيتان 82-83.

(1) سورة الجن: الآية 6.

(2) سورة الدخان: الآية 14.

(3) سورة الحجر : الآية 9.

(1)  سورة المؤمنون: الآية 25.

(2)  سورة المؤمنون: الآية 70.

(3)  سورة الدخان : الآية 14.

(1)  سورة الشعراء: الآية 27.

(1)  سورة الطور: الآية 29.

(2)  سورة القلم: الآيتان 51، 52.

وسوم: 635