دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

أبو عبيدة ، القائد العام للجيوش العربية الإسلامية في الشام ( 28 )

د. فوّاز القاسم / سوريا

تحرّك يزيد بن أبي سفيان بجيشه ، ثم تبعه شرحبيل بن حسنة بجيشه ، وبقي أبو عبيدة عامر بن الجرّاح ، يصلّي بمن تبقى من الجند في معسكر الجرف على أطراف المدينة المنوّرة ، ينتظرون إذن الخليفة بالتحرّك ...

وسيل المجاهدين ما يزال يتدفّق على المعسكر من جميع أرجاء الجزيرة العربية ، وخاصة من اليمن ، وفيهم وجوه القبائل ، وغرر العرب ، وصلحاء المسلمين ...

عندها أمر أبو بكر أبا عبيدة رضي الله عنهما ، بالتحرّك ، وجعله قائداً عاماً للجيوش العربية الإسلامية في الشام  كلّها ، إذا اجتمعت ، وخرج في وداعه ، وهو يقول :( يا أبا عبيدة ، إسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ، ثم يعمل بما أُمر به

إنك تخرج في أشراف الناس ، وبيوتات العرب ، وصلحاء المسلمين ، وفرسان الجاهلية .

كانوا يقاتلون إذْ ذاك على الحميّة ، وهم اليوم يقاتلون على الحسبة والنيّة الحسنة.

فأحسن صحبة من صحبك منهم ، وليكن الجميع في الحق عندك سواء .

واستعن بالله ، وكفى بالله وكيلاً .

يا أبا عبيدة ، إني قد رأيت منزلتك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وتفضيله إياك ، وأحبّ أن تعلم منزلتك منّي ، وكرامتك عليّ .

والذي نفسي بيده ، ما على الأرض من المهاجرين ، وغيرهم ، رجل أعدله بك ، ولا هذا (وأشار إلى عمر بن الخطاب )، ولا له منزلة منّي ، إلا دون ما لك ...)

ثم سار معه في جمع من المهاجرين والأنصار حتى بلغوا ثنيّة الوداع ، فلما حانت ساعة الفراق ، قال : ( يا أبا عبيدة ، إعمل صالحاً ، وعش مجاهداً ، وتوفَّ شهيداً ، يعطك الله كتابك بيمينك ، ولتقرَّ عينُك في دنياك وآخرتك ، فو الله إني لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الخاشعين الزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة .

إن الله قد صنع بك خيراً ، وساقه إليك ، إذ جعلك تسير في جيش من المسلمين ، إلى عدوّ من المشركين ، فقاتل من كفر بالله ، وأشرك به ، وعبد معه غيره )

فأما أبو عبيدة رضي الله عنه ، فقد ردّ التحيّة بأحسن منها ، وأجابه يقول :

( رحمك الله ، يا خليفة رسول الله ، فو الله إني لأشهد بفضلك في إسلامك ، ومناصحتك لله ولرسوله ، ومجاهدتك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تولّى عن دين الله ، حتى ردّهم الله بك إلى الدين صاغرين .

ونشهد أنك رحيمٌ بالمؤمنين ، ذو غلظة على الكافرين .

فبارك الله لك فيما علّمك ، وسدّدك فيما حمّلك ، فإني إن أك صالحاً فلربّي المنّة عليّ بصلاحي ، وإن أك فاسداً فهو وليّ صلاحي ، وأما أنت ، فإنا نرى لك من الحق علينا ، أن نجيبك إذا دعوتنا ، وأن نطيعك إذا أمرتنا .  )

وتحرّك أبو عبيدة في السابع من شعبان ، لسنة اثنتي عشرة للهجرة ، وسلك نفس طريق التبوكية التي سلكها إخوانه من قبله ، حتى بلغ الجابية ، جنوب دمشق ...

ألف شكر لرواة التاريخ الأمناء ، الذين أثبتوا لنا هذه النصوص الباهرة ...!!!

وأيم الله إنها لكنوز ، تشرّف التاريخ الإنساني ، وتصلح لتدريس مادة الأخلاق الحربية في أرقى المعاهد والجامعات والأكاديميات العسكرية والستراتيجية في العالم.!

فهل نقتدي بهم ، ونتخلّق بأخلاقهم ، ونسير على دربهم ، ونجاهد جهادهم ، ونضحّي تضحياتهم ...!!!؟

هذا ما نرجوه مخلصين ، ونعمل من أجله جاهدين ، والله غالب على أمره ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ...