إشراقات باهرة من سورة الأنعام (الغيب) 27

إشراقات باهرة من سورة الأنعام (الغيب)

د. فوّاز القاسم / سوريا

((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ((59

إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ; الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان , في الأرض ولا في السماء , في البر ولا في البحر , في جوف الأرض ولا في طباق الجو , من حي وميت ويابس ورطب . . .

ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود - من ذلك النسق القرآني العجيب ? وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد , من ذلك التصوير العميق الموحي ?

إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول , وعالم الغيب وعالم الشهود , وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح , ووراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد . وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ; البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله ; لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر , المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض , لا يحصيها عد , وعين الله على كل ورقة تسقط , هنا وهنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض , لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . .

إنها جولة تدير الرؤوس , وتذهل العقول . جولة في آماد من الزمان , وآفاق من المكان , وأغوار من المنظور والمحجوب , والمعلوم والمجهول . . جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف , يعيا بتصور آمادها الخيال . . وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات . .

ألا إنه الإعجاز !

وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز , الناطق بمصدر هذا القرآن .

ننظر إليها من ناحية موضوعها , فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ; فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر , في كل أنحاء الأرض ? إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ; ويعبر عنه الخالق !

وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ? إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبئونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته . . فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ; فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به , ولا أن يلحظوا وجوده , ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل ! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق , ويعبر عنه الخالق !

وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : (ولا رطب ولا يابس). .!!!؟

إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل . فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق , ويعبر عنه الخالق !

ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة , وكل حبة مخبوءة , وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين . وفي سجل محفوظ . . فما شأنهم بهذا , وما فائدته لهم ? وما احتفالهم بتسجيله .!؟

وهل هناك مؤسسة في الدنيا ، أو شركة ، أو دولة ، أو جماعة ، أو حزب ، أو غيره يهتم بإحصاء عدد الورق الساقط من الأشجار في الكون ، وتسجيله في سجلّات .!؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك , الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ; والحقير كالجليل ; والمخبوء كالظاهر ; والمجهول كالمعلوم ; والبعيد كالقريب . .

إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا , والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعا , والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ; وكذلك لا تلحظه العين البشرية ; ولا تلم به النظرة البشرية . . إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ; المشرف على كل شيء , المحيط بكل شيء . . الحافظ لكل شيء , الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير , والحقير كالجليل , والمخبوء كالظاهر , والمجهول كالمعلوم , والبعيد كالقريب . .

والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري , وحدود التعبير البشري أيضا . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد , لا يخطر على القلب البشري ; كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله , ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا !

إن هذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم ، وأنه من صنع الله العليم الخبير ...