القرضُ الحسن وأثرُه في تغير قيمة العملات
من أجل ثقافة اسلامية واعية
الترغيب في القرض الحسن وبيان فضله:
دعا الإسلام إلى تفريج كربة المسلم وقضاء حاجته وسد فاقته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نَفَّس عن أخيه كُربة من كرب الدنيا، نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ). رواه مسلم .
ومما شرعه الإسلام في هذا المجال: القرض الحسن، وهو إعطاء المال للآخرين مؤقتاً؛ ليدفعوا به ضائقتهم ثم يردُّوا مثله.
ولا خلاف بين العلماء في جوازه، بل هو مندوب إليه، لما فيه من عظيم الفضل وحسن الأجر، حتى قال بعضهم: إن موقعه أعظم من الصدقة؛ لأنه لا يقترض إلا محتاج . وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة ) رواه ابن ماجه.
ويُعدُّ القرض من عقود البر والإرفاق التي يقصد بها التيسير على الآخرين وتفريج كرباتهم؛ طمعاً في ثواب الله وحدَه وحسن جزائه.
من أحكام القرض الحسن:
وقد دعا الإسلام المقترض إلى الإسراع في وفاء القرض عند أول فرصة سانحة، وشكر المقرض على معروفه وإحسانه.
كما أجاز الإسلام الزيادة على مبلغ القرض عند وفائه إذا لم تُشترط في العقد وذلك على وجه التحبب ورد الجميل؛ لما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين، فقضاني و زادني ) رواه الشيخان.
وروى الشيخان أيضاً: أنه كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سِنٌّ من الإبل – أي جمل له سِنٌّ معين – فجاء يتقاضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوه سنَّاً مثلَ سِنِّه، فطلبوا سِنَّه فلم يجدوا إلا سِنَّاً فوقَها، فقال: أعطوه... فإن خيركم أحسنُكم قضاءً.
ونهى الاسلام عن الزيادة في رد القرض إذا اشتُرطت فيه، وعدَّها من الربا، وهو حرام، وفي الأثر الذي رواه البيهقي وغيره: ( كلُّ قرض جر منفعة، فهو وجهٌ من وجوه الربا ).
أثرُ تغيُّر العملة في وفاء القرض أو الدَّيْن:
تواجه المسلم في عصرنا مشكلة تتصل بالقرض الحسن، وذلك أن بعض الناس يمتنعون عن تقديم القرض الحسن للآخرين؛ مخافة أن تلحقهم خسارة مالية وضرر فادح نتيجة التضخم وارتفاع الأسعار، وما يقابل ذلك من انخفاض في القوة الشرائية للعملة التي يتم فيها القرض.
ولاشك أن أكثر من يتضرر بهذا التغير هم أصحاب الديون الكبيرة ذات الأجل الطويل، وبخاصة إذا كان انخفاض القوة الشرائية في العملة كبيراً.
وحتى يستمر عمل البر والمعروف ويظل قائماً في حياة المسلمين وممارساتهم، ولئلا ينقطع هذا المعنى الأخلاقي الإنساني، الذي يهدف إليه الإسلام في تشريعه لعقد القرض، كان لابد من معالجة هذه المشكلة الطارئة، وتلمُّس الحل الذي يتناسب مع النصوص الشرعية.
وبالرجوع إلى ما كتبه العلماء نجد أن بعض الفقهاء ومنهم أبو يوسف القاضي وابن تيمية رحمهما الله تعالى قد درسا هذه المشكلة، ومما ذكراه في هذا المجال: أن النقود إذا كسدت، أو انقطعت، أو غلَت، أو رخُصت، فإنه تجب قيمتُها يوم وقع البيع بالديْن، أو قُبِض القرض. ومما استدل به هؤلاء أن العيب إذا لحق بالسلعة المغصوبة ونحوها، فإنه تردُّ قيمتها يوم أخذت، وكذلك العملة هنا لحق بها العيب لانخفاضها فتُردُّ قيمتها يوم أخذها.
ويرى علماء آخرون منهم مالك والشافعي والحنابلة والليث بن سعد: أن الذي يُرد إلى المقرِض هو مثلُ ما اقتُرض منه عدداً ومقداراً لا قيمته؛ لما ورد من أدلة منها حديث: (أعطوه سنَّاً مثلَ سِنِّه ).
وهذا ما اعتمده مجمع الفقه الاسلامي الدولي في أحد قراراته، للنص على لفظ المثل.
رأي توفيقي:
ورأى بعض الفقهاء المعاصرين: أنه من الممكن التوفيق بين الاتجاهين من خلال التفريق بين حالتين اثنتين:
الحالة الأولى: فيما إذا كان انخفاض القوة الشرائية للعملة التي يتم بها القرض كبيراً ومؤثراً، فيؤخذ بالاتجاه الأول.
أما الحالة الثانية: فهي عندما يكون انخفاض القوة الشرائية للعملة يسيراً ومتحمَّلاً، فيؤخذ بالاتجاه الثاني.
وقد استند هؤلاء على بعض النصوص والمقاصد الشرعية ومنها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ). الآية 60 من سورة الرحمن، حيث إن المقرض قام بالإحسان إلى المقترض، فلا ينبغي أن يرجع إليه هذا الإحسان بالسوء بحسب منطوق الآية. فان قيل: إن غاية القرض الترفق بالمقترض، فالجواب على هذا: أن الترفق لا ينبغي أن يفضي إلى هضم حق المقرض أو بعض حقه.
ثانياً: قول الله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ). الآية 90 من سورة النحل، ومن العدل إعطاء كل ذي حق حقه، ومن المقرر أن الضرر لا يكون مع الحق، فإذا تضرر المقترض بالانخفاض الفاحش الكبير في القوة الشرائية للعملة، لم يكن قد نال حقه، فضلاً عن الإحسان الذي ندبت إليه الآية نفسُها.
ثالثاً: إنَّ تضرر المقترض بتآكل مبلغ القرض من خلال انخفاض قوته الشرائية، لا يتلاقى مع ما يهدف إليه الحديث المتفق عليه، والذي تقدم آنفاً، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن خيركم أحسنكم قضاء ). ومن الإحسان عدم غمط الناس أصول حقوقهم.
رابعاً: جاء في الحديث الشريف: ( لا ضرر ولا ضرار ). رواه أحمد والحاكم وابن ماجه. وهذا النهي يشمل الضرر الذي يلحق المقرِض من جراء انخفاض قيمة العملة، ولا يخفى أن من المقرر شرعاً: إزالة الضرر إذا وقع؛ للقاعدة الفقهية: ( الضرر يزال ). وإزالة الضرر هنا تكون بإزالة آثاره، وهي الخسارة التي نزلت بالمقرض.
رأي يربط القرض بالذهب:
ويرى بعض الباحثين: أن يتم ربط قيمة القرض بالذهب مثلاً؛ لأنه رأس الأثمان وأصولها، وإليه يطمئن الناس حال اضطراب المعاملات المالية وتدهور قيمتها، فضلاً عن أن الذهب والفضة هما الأصل الذي يُرجع إليه في تقدير نصاب الزكاة، وقيمة المتلَفات والديات وغيرها. وهو هنا كأنما يقرضه ذهباً.
وبناء على هذا يمكن للدائن والمدين أن يتفقا ابتداء على ربط المبلغ المقترض بسعر الذهب مثلاً, فإذا كان المبلغ يساوى مئتي غرام من الذهب وقت العقد، ثم انخفضت قيمة المبلغ أو ارتفعت, فإن المقترض يقوم بسداد ما يساوي مئتي غرام من الذهب من تلك العملة أو من بدائلها.
وبعد: يتضح مما تقدم مدى حرص الإسلام على تحقيق التعاون الاجتماعي بين المسلمين من خلال تشريع القرض الحسن للآخرين، كما يتضح مدى حرص الفقهاء على تحقيق العدل في ضوء مراعاة النصوص الشرعية والمقاصد العامة.
وسوم: العدد 702