دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 19
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
في الطريق إلى الحيرة ( 19 )
د. فوّاز القاسم / سوريا
لما فرغ خالد ( رض ) من أُلَّيس ، أراد ألا يمنح العجم فرصة لالتقاط أنفاسهم وتجميع قواتهم ، ذلك أن من أهم مباديء الحرب ( خفّة الحركة ، والمرونة والمطاردة واستثمار الفوز ) ، وكان من أهم ما يتميّز به خالد ( رض ) : خفة حركته ، وسرعة بديهته ، ومبادأته الأعداء ، ومباغتته لهم دوماً ...
وهذه تشكّل اليوم روح وجوهر حرب العصابات في العالم ...
فنهض من أُلَّيس وأتى أمغيشيا ، وهي مدينة كبيرة في طريقه إلى الحيرة ، فلما دخلها وجد أهلها قد هجروها وتفرّقوا في السواد من شدّة الخوف والرعب الذي أحدثته انتصارات خالد السابقة ، والتي كانت أخبارها قد ملأت الآفاق ، فاستولى عليها المسلمون بدون قتال ، وغنموا كلّ ما فيها حتى بلغ سهم الفارس فيها ( 1500 درهم ) ، هذا عدا الأنفال التي نفّلها خالد لأهل البأس والبلاء .!!!
ولما بلغت أخبار أمغيشيا إلى المدينة المنوّرة ، جمع الخليفة الناس كعادته ، وصعد المنبر ، وقال : ( يا معشر قريش ، لقد عدا أسدُكم ( ويعني خالداً ) على الأسد ( ويعني فارس ) فغلبه على خراذيله ( أشلائه ) ، أعَجَزتِ النساءُ أن يلدْنَ مثل خالد .!؟ ) ....
وأما خالد ( رض ) ، فبعد أن فرغ من توزيع الغنائم أراد أن يواصل سيره في خطّته المرسومة باتجاه الحيرة ، لكنه وجد صعوبة في السير على الأرض بسبب كثرة الفيضانات ، حيث كان الفصل ربيعاً ، والأرض مليئة بالمسطحات المائية ، فقرر أن يحمل قواته على السفن في النهر ، وبينما المسلمون يتسامرون على ظهر السفن ، إذْ راعهم جفاف مياه النهر ، وجنوح السفن إلى الأرض ، ففزعوا ، ولم يكن للمسلمين خبرة بركوب السفن .!!!
فلما سأل خالد ( رض ) أهل المنطقة عن السبب ، تبين له أن مرزبان الحيرة كان قد قطع مياه النهر وحوّل مجراه ، فنهض خالدٌ ( رض ) في مجموعة من الفرسان يقودها بنفسه ، وتوجّه مسرعاً باتجاه الحيرة حتى بلغ المقر عند فم العتيق ، فوجد خيلاً من طلائع جيش الحيرة عليه ابن آزاذبه ، مرزبان الحيرة ، وكان طلوع خالد ( رض ) عليهم مفاجأة غير متوقعة ، فدهمهم وهم آمنون حتى أبادهم ، وسدّ خالد فروع الأنهار ، وأعاد المياه إلى مجراها في الفرات ، ثم أرسل إلى بقية جيشه أن يلحق به بعد أن عادت المياه إلى مجاريها ، وعادت السفن إلى المسير ، واستمر هو بمن معه من الفرسان السريعة قاصداً الحيرة …
أما آزاذبه مرزبان الحيرة ، فقد فجع بخبرين مزعجين ، مقتل ابنه الذي كان يقود طليعة جيشه على يد خالد ، وموت أردشير في المدائن ، ولم يكن هناك من ينجده ويرسل إليه بالجيوش ، فما كان منه إلا أن انسحب بأهل بيته والبقية الباقية من عسكره إلى ما وراء الفرات ، تاركاً إقليم الحيرة يواجه مع خالد مصيره المحتوم.! وفي أمثال هذه المواقع الجهادية المشرّفة يحلو الشعر ، وتطيب ليالي الشعراء ، ومما قاله أبو مفزر الأسود بن قطبة :
لقينا يومَ أُلَّيسٍ وأمغى ويومَ المَقْرِ آناء النهار
ولم أرَ مثلها فضلات حربٍ أشدَّ على الجحاجحة الكبار
قتلنا منهمُ سبعين ألفاً بقيّةَ حربهم نخبَ الأسار
سوى من ليس يُحصى من قتيلٍ ومن قد غال جولانُ الغبار