العِبارةُ الهادية ...
هيهات أن يفرَّ المؤمنُ بالله من أمامِ زحفٍ جائرٍ يريدُ الدمارَ والهلاكَ لهذه الأمةِ ، أو أن ينكصَ على عقبيه من زحفٍ متقدمٍ يريدُ إعادةَ المكانةِ المفقودةِ والمجدِ الشامخِ لهذه الأمةِ نفسِها ، ففي الحالين نرى مسلما مؤمنا والَى اللهَ سبحانه وتعالى ورسولَه صلى الله عليه وسلم ، فكان هو الظاهر على مافي الدنيا من إغراءات ، ولم يكن غارقا في بحر ضياعها . فيخسر الخيرَ الموعودَ به في الدارين ، ومقامه في الحالين دليل هداية ربانية راسخة في صدره ، وهذه الهداية قادَتْه إلى موطن التوكل على الله ، ألم يقلْ ربُّنا سبحانه وتعالى : ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلَنا ... ) 12/إبراهيم ، فالموقف موقف على مفترق طريق فإما إلى الله في الخالدين حيث الفوز والرضوان ، وإما إلى عالم الشيطان والخسران ، وهنا نجتزئ من كلام إبليس ما أقرَّ به يوم الفصل : ( إن الله وعدكم وعد الصدق ) 22/إبراهيم ، حين يعترف الشيطان بعجزه وبأنه غرَّ هؤلاء المفلسين حيث يقول : ( ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان ... ) وكأنه يقول دلَّستُ عليكم وأغويتكم : ( إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) بل إن الشيطان حينئذ يسخر منهم : ( فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم ) ، فالحياة الدنيا ظل زائل ، وقد تغدو كذبة حلوة من شياطين الجن والإنس في حياة الإنسان فيحبها ، ويقع هذا الإنسان في هذا المستنقع المشؤوم ، فما أشدَّ مرارته وحزنه حين يقول الشيطان لأعداء الإسلام : ( ما أنا بمصرخكم ، وما أنتم بمصرخي ، إني كفرتُ بما أشركتموني من قبل ) ويستسلم الشيطان لحكم الله سبحانه ، ويومِئُ لأتباعه أن عرفتم الحقيقة الآن ، وظلمتم أنفسكم ، فهنا الموئل الختامي لمسيرتكم : ( إنَّ الظالمين لهم عذاب أليم ) 22/ إبراهيم ، لهم الذل والهوان في الحياة الدنيا ، مهما بدا للناس أنهم على مقاعد القيادة والريادة ، وأنهم في سعادة أبدا : ( إنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله مالا يرجون ) ، وأما إقبال المسلم على الدار الآخرة بالباقيات الصالحات فقد يكون فيه شيء من الأذى من أعداء الله ، ولكن النتيجة لايمكن وصف مافيها من خير دائم في مقعد صدق عند مليك مقتدر . وهذه النتيجة الحلوةُ ربما كانت ثمرةَ هذا الإيمان الأثير الذي تترجمه صلاةُ ركعتين في جوف الليل ، أو صدقةٌ مقدارُها دريهماتٌ ، أو أذكارٌ جرت على لسان قلب سليم ، أو قضاء حاجة مضطر ملهوف ، فالإنسان العاقل مَن داف الحكمةَ بأشذاء العاطفة ، وقيَّد العاطفة بحكمة العقل السليم ، فما يؤلمُ الإنسانَ في الدنيا في سبيل الله يفرحُه في الآخرة ، فالقلقُ قرين الجاهل بموازين السماء ، والجزع يكمنُ في ضعف الإنسان ، ويضعف الإنسان أمام مغريات النفس ‘ فيسعى إليها ويتمتع بملذاتها الوقتية ، ولكنه بهذا الضعف استسلم للهزيمة المنكرة من فطرته ومن مكانته التي أرادها الله له ، وأما المؤمن بالله فلايكون ضعيفا أبدا ، ولا يعيش منهزما من خير أتاه من مولاه . فأبواب الرفعة يدخلها مرفوعو الرؤوس الذين استقامت سيرتُهم على منهج الله في قرآنه الكريم ، وعلى نورِ هَدْيِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الثبات على الثغور في هذه الأيام الحالكات أمام زحوف الشر التي لم يسبق لأهل الأرض أن شهدوا مثلها من قبل ، إشارة مبينة على تصديق أهل السُّنة والجماعة لكل ماجاء في دينهم القويم من بشارات رغم الآلام ، فقد شُرِّد المسلمون في أصقاع المعمورة ، وأُخرجوا من ديارهم عنوة وبلا رحمة ، وحاول الطغاة البغاةُ إذلالهم ، ولكن الله فتك بالطغاة البغاة الواحد تلو الآخر ، ولن يُبقي منهم أحدا ، واحتسب الناس مالاقوه عند الله ، ولا يُلام الإنسانُ إذا حنَّ إلى وطنه ، أو إذا فاضت عيناه شجوا على مراتع صِباه ، فللوطن في الحقيقة جاذبية قوية ، تغلغلت في أُوار المشاعر فزادت ضرامَها ، واستقرت في أعماق الصدور فلا يمكن أن يبيع الإنسان وطنه بثمن ، ناهيك عن مكانة دينه الحنيف في قلبه ، بل في كل حياته . قد يشعر بالخوف من بطش الطغاة والغزاة ، وقد يُقتل أو يُسجن ، أو ... يناله سعيرُ غيرِهما من الأهوال والشدائد ، ولكن يبقى ثابتا على دينه ، حريصا على آخرته ، فالدنيا ليست بدار قرار ــ كما أسلفنا قبل قليل ــ والقرار الممتع في وعد الله : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )111/ التوبة . ألا فلْيواصل أهل الرباط رباطهم ، وليصبر الذين أُوذوا في سبيل الله ، على ابتلاءاتٍ أحدقت بهم من كل جانب ، فالعقبة لهم ــ بمشيئة الله ــ مهما كانت الصعاب ومهما تكالب الأعداء على مكانة هذه الأمة الموعودة ، فالله غالب على أمره ، والله سبحانه القاهر فوق عباده ، فالطريق هنا جليَّةٌ ، وأُفقُها تتلألأ فيه أنوار النبوة ، فيأبى أهلها الأبرار الأحرار أن ينصاعوا لغير أمر الله ، أو أن يطأطئوا رؤوسهم لغيره جلَّ و علا : ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) ۞ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)الأنعام .
دين الله في حرب مع أعداء الله منذ الأزل ، وهؤلاء الأعداء ماانفكوا أبدا عن استهزائهم بهذا الدين ، ولكنهم خسروا جميع المنازلات مع جند الله ، فأين الفراعنة الكبار والصغار ؟ وأين الطغاة والجناة والبغاة ؟ وأين أعدادُهم وعتادهم وجبروتهم ! كلها قيد الفناء ... وهم في قبضة جبار السماوات والأرض ، القاهر فوق عباده . لقد حاق بهم كفرُهم واستهزاؤُهم بهذا الدين القويم ، ونزل بهم جزاؤُهم الأوفى حيث كانوا يقتلون الناس أويؤذونهم أو يخرجونهم من ديارهم ، أو يسلبون متاعهم وأموالهم ... إن حسابَهم عند الله عسير في الدنيا وفي الآخرة ، والمسلمون عليهم الصبرُ وأخذ العبرة ممـا جرى لأولئك المارقين المفسدين في العهود الماضية وفي عصرهم هذا ، فماهم والله إلا غثاء ، غرَّتهم فتنةُ الحضارة المشؤومة التي لم تُنَقَّ من درن العُتو والفساد والتسلط ، ولم تنأ عن أهواء النفوس الأمارة بالسوء ، فقد استعبدتها الملذات ، واستحوذت على سيرتها غير المحمودة الخبائث والموبقات ، فكانت صحائف أعمالها مشحونة بالرذائل . وليس لهذه النفوس من عاقبة إلا الوبال والتبار مهما خُيِّل لنا أنها هي القوية وهي الفائزة ، فحياتها لم تبرح محيط السراب الخادع في دروب الحياة . إن الباطل منهزم لامحالة ، وليس لقوة الباطل مهما كانت أن تنتصر على قدر الله ، والله عزَّوجلَّ يملي للظالم ويمهل الباغي لحكمة يعلمها الله ، وفي فترة سيطرته وبغيه يكون ابتلاءُ أبناءِ الأمة للتمحيص واتخاذ الشهداء ، حتى إذا قضى ما أراد أخذ الظالم والباغي ولم يفلتْهما ، ولعل الإنسان يعجب أشدَّ العجب من قصة فرعون ، إذ كيف أخرجه الله من ملكه ليلحق بموسى عليه الصلاة والسلام وبمن معه من أولئك الضعفاء الذي قتل أبناءَهم واستحيا نساءَهم ، وقال : أنا ربكم الأعلى ، كان بإمكانه أن يرسل خلفهم فرقة من جيشه ، وكان بإمكانه أن يقتل موسى عليه الصلاة والسلام وتنتهي القصة . ولكن الله أراد غير ذلك فهيَّأ الأسباب لتكون نهاية هذا الفرعون الطاغي الباغي ذاتَ عِبر ، لاندري ماذا دار في خلد هذا الفرعون ، وقرر أن يلحق بموسى عليه السلام ، ولعل المتبصر في حاله يجد أن خروجه يدل على جهله وغبائه في صورة من الصور ، ويدل على حالة من الانفعال الطاغوتي الذي يُعمي فلا يرى الطاغوتُ إلا ما يرى هو ، ويصم فلا يسمع كلام ناصح ولا موعظة حكيم ، والنتيجة أن إرادة الله هي الغالبة ، ولكن أكثر الناس لايعلمون . فرأينا كيف هلك فرعون ، وكيف أهلك اللهُ معه جميع جيشه وحاشيته الضَّالة المضلة ، وكيف خسر المعركة رغم جبروته وقوته المادية وعنفوان تسلطه واستهتاره بالناس ، كان يبدو ــ لبعض الناس ــ أنه هو المنتصر ، وأنه متمكن من سيطرته ، ولكن لاقوة لها أثر يُذكر أمام قوة الله سبحانه ، فلا يخشى المسلمُ الصابرُ المحتسبُ جبروتَ طاغٍ أو عنفوانَ أثيمٍ في أي حقبة من حقب هذه الحياة الدنيا ، فكم من طاغوت قتله الله ، وكم من متجبر أهلكه الله ، وكم من فرعون كبير وصغير وجد جزاءَه في الدنيا قبل الآخرة . وهذا الطاغوت وذاك الفرعون وأمثالهما من الفراعنة كان بإمكانهم أن يحكموا الناس بما يعود على الناس بالخير والطمأنينة والسعادة ، فيحفظ كرسيه ، ويحفظ حبَّ مرؤوسيه له ، ولكنه الهوى ، هوى السلطان الذي يُفسد ولا يصلح ، وصدق الله القائل في كتابه المبين : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 ) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) 82/ يونس .
إن العبارة الهادية اليوم لهذه الأمة المعذبة الحائرة ، هي نفس العبارة التي تلقاها المسلمون الأوائل من نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فلا يأس يخنقُ الأمل بفرج الله ، وإنما النور الذي يبدد ظلمات الهمِّ الثقيل على النفوس ، والثقة المطلقة برحمة الله وخفي لطفِه ، تلك الثقة النفيسة التي تمنح المسلمَ القوةَ الفاعلةَ ، والعزيمةَ النافذةَ ، والدعاءَ الذي لايردُّه الله ، فيسأل ربَّه ألاَّ يُسلمه للعجز والكسل والجبن والهرم والبخل ، ويسأله الهدى والسداد ، ويصرف عنه منكرات الأخلاق ، والأعمال والأهواء ، ويستعيذ به من زوال النعمة ، وتحول العافية ، وفجأة النقمة ، ومن شرِّ الأعمال وسوء المنقلب . وتجمع ذلك كلَّه تقوى الله التي تحمل هبةَ اللهِ العظمى ، ألا وهي المخرج من كل ضيق ، والنصر على الأعداء ، فالتقوى هي مغنى السعادة في الدنيا والآخرة : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) 2/3/ الطلاق .
وسوم: العدد 743