تأملات في القران الكريم ح361، سورة الزخرف الشريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ{19}
تنعطف الآية الكريمة لتضيف ( وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) , بقول مشركي العرب المعروف "الملائكة بنات الله" , ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) , أحضروا خلقهم , كلا بل قولهم نابع من جهل وعدم معرفة , ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ) , ستسجل شهادتهم على الملائكة , ( وَيُسْأَلُونَ ) , ويسألون عنها يوم القيامة ليترتب عليها الجزاء .
وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ{20}
تنعطف الآية الكريمة لتروي على لسان الكفار ( وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم ) , ينسبون عبادتهم "للملائكة او الاصنام" انها بمشيئة الله تعالى ورضاه , ( مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) , ليس لديهم بينة على عبادتهم تلك , ( إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) , يكذبون , فيترتب عقابا اخر على كذبهم وادعاءهم هذا .
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ{21}
تضمنت الآية الكريمة سؤالا انكاريا ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ) , هل نزل عليهم كتابا قبل القرآن يشهد لهم على ادعاءاتهم ويجيز لهم عبادتهم , ( فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) , فهم بذلك الكتاب متمسكون منفذين تعاليمه , لم يكن ذلك ابدا .
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ{22}
تروي الآية الكريمة حقيقة عبادتهم ومزاعمهم على لسانهم ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ ) , بل هي ملة اباءنا , ( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) , انا متمسكون بما ورثناه منهم مقتدون به , وهذا ما يشير الى ان عقيدتهم كان مصدرها الجهل والتقليد .
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ{23}
تستمر الآية الكريمة ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ) , من الرسل , ( فِي قَرْيَةٍ ) , في امة من الامم السابقة , ( مِّن نَّذِيرٍ ) , منذر مخوف لهم بالعذاب القادم , ( إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) , الا وقال المترفين المتنعمين فيها وهم قادة وكبراء القوم عين ما قاله مشركي مكة .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ{24}
تستمر الآية الكريمة ( قَالَ ) , يختلف المفسرون في من القائل هل هو النذير او النبي محمد "ص واله" , الا ان المضمون لا ولا يتقاطع بينهما , ( أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ ) , انتم تتبعون اباءكم في دينكم وعاداتكم وتقاليدكم هذه , ماذا لو جئتكم بأفضل منها , ( قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) , يروي النص المبارك ردهم عليه "انا بما ارسلت انت به والذين من قبلك كافرون " , اقناط للنذر بعدم ايمانهم مهما كان الذي معهم من الهدى .
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{25}
تستمر الآية الكريمة مبينة مصيرهم ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) , من المكذبين بالرسل بالاستئصال , ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) , فأنظر ايها الرسول "النذير" كيف كان عقابهم في الدنيا , وليحذر قومك من الاستمرار بالتكذيب , فينزل عليهم انتقامه جل وعلا كما انتقم من السابقين .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ{26}
تنعطف الآية الكريمة لتذكر شيئا من خبر ابراهيم "ع" ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ) , واذكر حين قال ابراهيم "ع لأبيه وقومه بعد ان استدل بالبرهان على فساد دينهم واعتقادهم , ( إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ) , بريء من عبادتكم ومعبودكم .
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ{27}
يستمر كلامه "ع" في الآية الكريمة ( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) , مستثنيا عبادة الله تعالى , ( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) , فأنه جل وعلا سوف يهديني ويرشدني الى الطريق المستقيم , وهذا مما وعد به جل وعلا ان يهدي من اراد الهداية وطلبها في محالها .
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{28}
تستمر الآية الكريمة في الموضوع ( وَجَعَلَهَا ) , اي التوحيد وهو المفهوم من قوله ( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) , ( كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) , باقية في ذريته ليكون فيهم دائما الموحد والداعي للتوحيد والمبلغ والمنذر في كل زمان ومكان , كي لا تخلو الارض من حجة , ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) , يرجع مشركي مكة الى دين ابراهيم "ع" .
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ{29}
تستمر الآية الكريمة ( بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ ) , هؤلاء العاصين للنبي الاكرم محمد "ص واله" واباءهم بالنعمة وطول العمر والامان من الاخطار بأن جعل لهم مكة بلدة آمنة , ( حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ ) , من الله تعالى , ( وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ) , مظهر لهم الدين الصحيح ومبيّن لهم الصراط المستقيم وهو الرسول الكريم محمد "ص واله" .
وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ{30}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ) , الثابت من الله تعالى لينبههم من غفلتهم ويرشدهم الى الطريق الأقوم , ( قَالُوا هَذَا سِحْرٌ ) , لم يكفهم عدم الايمان بل اضافوا اليه العناد وتوجيه التهم , ( وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ) , واظهروا اصرارهم على الكفر .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ{31}
تروي الآية الكريمة على لسانهم مقترحين ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ ) , القريتين هما مكة والطائف , ( عَظِيمٍ ) , بالمال والجاه والرجلين المقترحين هما الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف , حيث ان مسألة الرسالة مسألة عظيمة لا تليق الا برجل عظيم , وغاب عن اذهانهم ان مسألة الرسالة مرتبة روحانية لا مادية لا تنال بالمال والجاه وزينة الدنيا , بل تنال بفضائل الاخلاق وسمو النفس وارتقاءها .
كما ويلاحظ في الآية الكريمة تعظيم الكفار الى بعض الرجال , مقياسهم في ذلك المال والجاه وزينة الدنيا , وهذا لا يزال ملحوظا في زماننا , حيث يعظم ذوي المناصب الرفيعة في الدولة ويقدمون في المجالس والنوادي , اما ذوي التعليم والاخلاق يؤخرون او لا يعبأ لهم , وان احترموا فبالمقدار القليل .
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ{32}
تضمنت الآية الكريمة الرد على اقتراحهم ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ) , سؤال انكاري , والرحمة هنا يراد بها النبوة , ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) , فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا , او هم عاجزون عن ادراكها وتدبيرها بمحض حولهم وقوتهم , ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) , في الجاه والمال , ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ) , فيكون بعضهم مسخرا لخدمة البعض الاخر , بذا يتكامل النظام ويسير العالم , ( وَرَحْمَتُ رَبِّكَ ) , النبوة وما يترتب عليها من الثواب الجزيل في الجنة لمن اتبع طريقها , ( خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) , افضل مما يجمعه ويحصله هؤلاء في الدنيا .
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ{33}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) , على الكفر , ( لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ ) , غاية في الترف , ( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) , سلالم يصعدون عليها للسطح .
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ{34}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً ) , من الفضة , بيانا للفخامة , ( وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ ) , ايضا اسرة من الفضة , بيانا لمزيد من الترف .
وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ{35}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( وَزُخْرُفاً ) , انواع اخرى من الزينة كالذهب مثلا , ( وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) , ان كل ذلك الترف والفخامة مجرد متاع فان , لابد ان يفارق اهله او ان اهله يفارقونه , فلا بقاء للدنيا وما فيها , ( وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) , اما الاخرة فلا نفاد ولا انقطاع لها , العاقبة الحسنة فيها لمن اتقى الله تعالى .
( عن الصادق عليه السلام لو فعل الله ذلك بهم لما آمن أحد ولكنه جعل في المؤمنين أغنياء وفي الكافرين فقراء وجعل في المؤمنين فقراء وفي الكافرين أغنياء ثم امتحنهم بالأمر والنهي والصبر والرضا .
عن الصادق عليه السلام قال قال الله عز وجل لولا أن يجد عبدي المؤمن في نفسه لعصبت الكافر بعصابة من ذهب .
عن الصادق عليه السلام إن الله جل ثناؤه ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في الدنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه فيقول وعزتي ما أحوجتك في الدنيا من هوان بك عليّ فارفع هذا السجف فانظر إلى ما عوّضتك في الدنيا قال فيرفع فيقول ما ضرني ما منعتني مع ما عوّضتني.
أقول : السجف بالمهملة والجيم الستر.
وعنه عليه السلام قال قال النبي صلى الله عليه وآله يا معشر المساكين طيبوا نفسا واعطوا الله الرضا من قلوبكم يثيبكم الله عز وجل على فقركم فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم.
وعنه عليه السلام قال ما كان من ولد آدم عليه السلام مؤمن إلا فقيرا ولا كافر إلا غنيا حتى جاء ابراهيم عليه السلام فقال ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فصير الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة ) . "تفسير الصافي ج4 للفيض الكاشاني " .
وسوم: العدد 748