تأملات في القران الكريم ح362، سورة الزخرف الشريفة

بسم الله الرحمن الرحيم

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ{36}

تبين الآية الكريمة على منحى التأكيد (  وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) , يعمى عن ذكره جل وعلا بسبب الانغماس في الشهوات وسائر الماديات , ويلاحظ ان العشو انعدام جزءا من البصر وليس كله , كذلك المنغمس في الشهوات والماديات يصيب بصيرته جزءا من العمى وليس كله , (  نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً ) , نقدر له او نجعل له شيطانا يغويه ويحرفه عن الصراط , (  فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) , لا ينفك عنه .

( عن أمير المؤمنين عليه السلام من تصدى بالأثم أعشى عن ذكر الله تعالى ومن ترك الأخذ عمن أمره الله بطاعته قيض له شيطان فهو له قرين ) . "تفسير الصافي ج4 للفيض الكاشاني" .     

وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ{37}

تستمر الآية الكريمة في موضوع سابقتها (  وَإِنَّهُمْ ) , اي القرناء "الشياطين" , (  لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) , يمنعون قرناءهم من البشر عن الطريق المستقيم المؤدي الى الله تعالى , (  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) , لذا يعتقد ويظن البشر "المصابين بالعشو الشيطاني" بأنهم على الطريق السليم .   

حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ{38}

تستمر الآية الكريمة في الموضوع (  حَتَّى إِذَا جَاءنَا ) , أي الانسان المعشو وقرينه الشيطان يوم القيامة , (  قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ) , فأنه يقول لقرينه ذلك اليوم او في تلك اللحظة "ليتني ابتعدت عنك بعد المشرق عن المغرب " لأنهما لا يلتقيان , (  فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) , قبح اقتراني بك .  

وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ{39}

تستمر الآية الكريمة (  وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ ) , لا ينفعكم اليوم التمني ايها الانسان المعشو وقرينه , فقد تقدمتم بظلم انفسكم بإيرادها موارد الهلاك , ووقع الظلم منكم على حقوق غيركم , (  أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) , كلاكما في العذاب , لعدم نفع الندم والتمني ذلك اليوم .

أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{40}

تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" (  أَفَأَنتَ ) , يا محمد "ص واله" , وهذا انكار وتعجب , (  تُسْمِعُ الصُّمَّ ) , تتمكن من اسماعهم بعد ان صموا عن سماع الحق , وانغمسوا في الكفر والضلال , (  أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ) , او تهدي وترشد الى الطريق من اصيب بالعمى "عمى البصيرة" , (  وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) , ومن انغمس في الشرك والآثام بعد ان صمت وعميت بصيرته .    

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ{41}

تستمر الآية الكريمة في خطابها للرسول الكريم محمد "ص واله" (  فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) , نتوفينك قبل ايقاع العذاب بهم , (  فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ) , بعدك او في الاخرة .    

أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ{42}

تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" (  أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ ) , او نريك في حياتك ما وعدناهم به من العذاب , (  فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ) , قادرون على انزال العذاب عليهم .    

(  روي أنه صلى الله عليه وآله اري ما يلقى ذريتهمن أمّته بعده فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتى لقي الله تعالى ) . "تفسير الصافي ج4 للفيض الكاشاني" .       

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{43}

تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" (  فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ) , من القران او الشريعة او الامر الالهي , (  إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) , فأنك على طريق ثابت لا اعوجاج ولا انحراف فيه .   

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ{44}

تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" (  وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ) , ان الشريعة الاسلامية بكل ما فيها لشرف عظيم لك يا محمد "ص واله" ولقومك كون القرآن نزل بلغتهم وفي بلادهم , وفي اقامتها وتطبيق مضامينها الخير الكثير حيث ستكونون عندها في مقدمة الامم الاخرى وسيعم فضلكم عليهم , اما اذا تركتموها واعرضتم عما جاء فيها فستنقلب بكم الاحوال , ويتجرأ عليكم القاصي والداني , (  وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) , عن القيام بها او عن تركها والاعراض عنها .      

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ{45}

تستكمل الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" (  وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ) , تضمن النص المبارك امرا يختلف في شأنه المفسرون , فكيف به "ص واله" ان يسأل الرسل وقد توفتهم الآجال , مع العلم ان اقربهم كان عيسى "ع" والمسافة بينهما كانت اكثر من خمسمائة سنة , لذا يطرح المفسرون جملة من الآراء منها :    

1-    أي اسأل حملة شرائعهم , يذهب الى هذا الرأي جملة من المفسرين , لكنه لا يصمد امام النقد , حيث كما هو المعلوم ان الاسلام لا يحتج بحملة الشرائع السابقة كاليهود والنصارى , ولو سئلوا لأعتبر ذلك حجة واستغلوه كدعوة الى دينهم , الى غير ذلك من الاعتراضات .

2-    أسألهم ليلة الاسراء والمعراج , حيث التقى "ص واله" جميع الرسل والانبياء فيها , يذهب الى هذا الرأي جملة من المفسرين .

3-    الرسل جميعا مضوا شهداء , والشهداء احياء عند ربهم يرزقون , والرسول الكريم محمد "ص واله" سيدهم , لذا يمكنه ان يسألهم ويجيبوه .

(  أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) , جميع الرسل والانبياء "ع" دعوا الى توحيد الله تعالى , والآية الكريمة فيها تقرير لمشركي مكة يقرر لهم انه لم يأت رسول من الله او كتاب سماوي يأمر بعبادة غيره جل جلاله . 

( عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية من ذا الذي سأله محمد صلى الله عليه وآله وكان بينه وبين عيسى خمسمأة سنة فتلا هذه الآية سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا قال فكان من الآيات التي أراها الله محمدا صلى الله عليه وآله حين أسرى به إلى البيت المقدس أن حشر الله له الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعا وأقام شفعا ثم قال في إقامته حي على خير العمل ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم فأنزل الله عليه واسأل من أرسلنا الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله على ما تشهدون وما كنتم تعبدون فقالوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله (ص) أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا ) ." تفسير القمي" .

( عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وأما قوله واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا فهذا من براهين نبينا التي أتاه الله إياها وأوجب به الحجة على ساير خلقه لأنه لما ختم به الأنبياء وجعله الله رسولا إلى جميع الأمم وساير الملل خصه بالأرتقاء إلى السماء عند المعراج وجمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما ارسلوا به وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه فأقروا أجمعين بفضله وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده وفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم ولم يستكبروا عن أمرهم وعرف من أطاعهم وعصاهم من اممهم وسائر من مضى ومن غبر ) . "تفسير الصافي ج4 للفيض الكاشاني" .         

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{46}

تنعطف الآية الكريمة محققة مؤكدة (  وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ) , بالمعجزات والبينات القاهرة , وكانت جهة ارساله "ع" (  إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) , الطاغي فرعون وقومه , (  فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) , فأعلن لهم "ع" انه رسولا من رب العالمين . 

فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ{47}

تستمر الآية الكريمة (  فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا ) ,  حضر في مجلسهم , (  إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ) , سخروا واستهزئوا بها , لم يتأملوها او يتدبروها .

وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{48}

تستمر الآية الكريمة (  وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ ) , من علامات العذاب كالطوفان والجراد وغيرها , (  إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) , اكبر واخطر من سابقتها , (  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ ) , كالسنين , (  لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) , يحيدون عن حالهم على الكفر ويؤمنوا رسالته "ع" .  

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ{49}

تروي الآية الكريمة على لسانهم (  وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) , ف النص المبارك عدة آراء منها لا على سبيل الحصر:

1-    تهمة : اتهموا موسى "ع بالسحر , وهذه التهمة وجهت لكثير من الرسل والانبياء "ع" . 

2-    ليست تهمة : او قد تكون ليست تهمة , وذاك من عدة أوجه :

أ‌)       من المعهود لديهم ان الساحر ذو علم واسع .

ب‌)  تنسب الى الساحر المعرفة بخفايا الامور وبواطنها وما ألتبس عليهم منها .

ت‌)  تنسب الى الساحر الحكمة ولطائف المعرفة.

ث‌)  عرف ان لكل ساحر منهج واسلوب مختلف عن غيره .

ج‌)    بعض السحرة يعبدون آلهة مختلفة , فغالبا ما يعتقد ويظن ان مهارة الساحر نابعة بتسديد من الاله الذي يعبده.

(  ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ) , بما لديك من معرفة به وبالصلة التي بينك وبينه , (بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ) , من العلم والمعرفة ان يكشف عنا العذاب , (  إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) , الى الايمان به وتفضيله على سائر الالهة. 

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ{50}

تبين الآية الكريمة (  فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ ) , رفع عنهم العذاب بدعاء موسى "ع" , (  إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) , عهدهم بالإيمان والاهتداء .  

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ{51}

تروي الآية الكريمة على لسان فرعون (  وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ) , خاطبهم مفتخرا او لأنه كان خائفا من ان يؤمن بعض قومه بموسى "ع" , (  قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) , كل اراضيها وما فيها , (  وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ) , من تحت قصوري , (  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) , افلا ترون ذلك وتدركون عظمتي .      

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ{52}

يستمر خطاب فرعون لقومه في الآية الكريمة (  أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) , مع هذا الملك والعظمة والبسطة , (  مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) , من موسى "ع" حيث انه "ع" لضعف حاله لا يصلح للرياسة , (  وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) , كلامه , لأنه "ع" اصيب لسانه بجمرة في صغره ما سبب له صعوبة الكلام على بعض الآراء.   

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ{53}

يستمر خطاب فرعون لقومه في الآية الكريمة مقترحا اقتراحين :

1-    (  فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ) : سوار من الذهب , وكان رمزا للمفاخرة او رمزا للحكم . 

2-    (  أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) : متتابعين معه يصدقونه في دعوته ويدعمونه على امره ويساندونه على نشر دينه.     

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ{54}

تستمر الآية الكريمة في الموضوع (  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ) , فاستفز فرعون قومه واستنفر خفتهم في طاعته , (  فَأَطَاعُوهُ ) , فأطاعوه في تكذيب موسى "ع" , (  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) , خارجين عن طاعة الله جل جلاله .     

وسوم: العدد 749