الخاطرة ١٨٤ : الملك العقرب بطل أم وحش ؟
خواطر من الكون المجاور
في الفترة الأخيرة بدأت تظهر مقالات وأفلام تاريخية أسطورية بطلها الإنسان العقرب ، وإذا تمعنا في صفات هذه الشخصية في هذه الروايات والأفلام سنجد أنها صفات متناقضة فيما بينها فهذه الصفات تختلف من فيلم إلى فيلم بحيث تجعل إحساس المشاهد - خاصة الأطفال - عن العقرب ككائن حي إحساس عشوائي فبدلاً من أن تساعدنا هذه الأفلام في معرفة التكوين الخلقي للعقرب وسبب وجوده في الحياة لنستطيع فهم علاقته الروحية مع التكوين الروحي للإنسان ، نجد أنها بدلا من ذلك تزيد جهلنا بهذا الحيوان بسبب شدة تناقض صفاته وكذلك ابتعاده عن صفاته الحقيقية كما هي في الطبيعة .
قد يعتقد الكثير أن ظهور مثل هذه الأفلام الخرافية عن العقرب سببها الشركات السينمائية الأمريكية التي حسب رأي البعض تحاول تشويه كل شيء في سبيل صناعة أفلام أكشن مثيرة تجذب ملايين المشاهدين بهدف الربح المالي ، وهذا لا يعارض عليه أحد أن هذه الشركات قد ساهمت في تشويه الحقائق ، ولكن إذا ذهبنا وبحثنا عن الأفكار التي اعتمدها مؤلفو هذه الروايات السينمائية سنجد أنها مأخوذة من تفسيرات لعلماء آثار لهم قيمتهم العالية في الأواسط العلمية ، فكثير من علماء تاريخ مصر القديمة يعتقدون أن الأب الأكبر للحضارة المصرية القديمة هو ملك مصري قديم يسمى (الملك العقرب) .
فقد اكتشف علماء آثار مصر القديمة في عام 1898 على بعض آثار للملك العقرب فى هيراقونبوليس فى "الكوم الأحمر" ، حيث عثروا على رأس مقمعة حجرية تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ والتي سميت بالأسرة الحاكمة (صفر) لدلالة على حكام ما قبل عصر الأسر الحاكمة المعروفة . هذه الرأس مصنوعة من الجرانيت الوردي ومرسوم عليها صورة لملك يضع على رأسه التاج الأبيض والذي يمثل تاج ملك القسم الجنوبي من مصر (مصر العليا) وهذا الملك يصوَّرُ واقفًا وخلفه منظر لطيور مذبوحة معلقة . هذه الطيور يعتقد الكثيرون أنها ترمز لقبائل أجنبية حاربها الملك العقرب وانتصر عليها، وأمام الملك توجد صورة لعقرب.ولأن الكتابة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت فإنه لم يتم معرفة اسم ذلك الملك لكن صورة العقرب الموجودة بجواره جعلت العلماء يطلقون عليه اسم “الملك العقرب”. وقد استنتج العلماء أن ذلك الملك كان ملكا مصريا من الصعيد حارب مجموعة من القبائل الأجنبية وسيطر على جميع مناطق مصر السفلى والعليا. ومن خلال دراسة بعض القطع الأثرية الأخرى أيضا ، تبين أن “الملك العقرب” كان يحكم المناطق الجنوبية من مصر قبل حوالي ٣٢٠٠ قبل الميلاد او أكثر . هذا الملك صعد مع جيشه إلى الشمال وحارب مجموعة من القبائل الأجنبية في غرب الدلتا وانتصر عليهم وسيطر على جميع أراضي المنطقة والمعروفة اليوم ببلاد مصر ، هذه الدراسات جعلت الملك العقرب يبدو وكأنه أحد الأبطال المصريين القدماء الذين عملوا على حماية وطنهم وتوحيده والنهوض به في تلك العصور الغامضة من تاريخ مصر القديمة.
حتى بعض الشعراء المصريين في العصر الحديث ومما سمعه عن هذا الملك ذهب وألف ملحمة شعرية تمجد ملك العقرب حيث تذكر هذه الملحمة :
يُحَدِّثُ التَّارِيْخُ وَ دَوْمًا يَكْتُبُ .......كَلامًا عَنِ الأَبْطَالِ الَّذِيْنَ طَيَّبُواْ
وَ مِنْ هَؤُلاءِ الأَبْطَالِ مُنَاضِلٌ .........هُوَ مَلِكُ الصَّعِيْدِ الْمَلِكُ الْعَقْــرَبُ
بِسَيْفِهِ قَاتَلَ عدُوَّ بِلادِهِ.......وَ ضِدَّ تَشَتُّتِ الشَّعْـــــــــــــبِ يُحَارِبُ
..........ويتابع :
فَسَقَطَ قَتِيْلاً الْمَلِكُ الْبُوْمَةُ ...............وَ هُـــوَ بِدِمَائِهِ مُتَخَضِّــــــــبُ
ذَبَحَ نَعَرْمَرُ الْمَلِكَ الْبُوْمَةَ ..........فَخَافَ الْغُزَاةُ وَ اضْطَرَبُواْ وَ دُرْدِبُواْ
وَهَدَمَ الْعَقْرَبُ الْحُصُوْنَ بِفَأْسهِ ........ وَ حُوْرَسُ بِجِوَارِهِ كَانَ يَضرِبُ
من يتمعن جيدا برموز الحيوانات المذكورة في هذه الملحمة سيجد انها تتناقض نهائيا مع اسلوب حياتها في الطبيعة، فكل كائن حي سواء كان نبات او حيوان لم يخلق عبثا في الحياة ولكن تم خلقه بحكمة إلهية تساعد العلماء في فهم العلاقة الروحية بين هذا الكائن والإنسان ، فالتكوين الروحي للإنسانية هو في الحقيقة عبارة عن جميع أنواع الكائنات الحية والتي أعطاها الله رمز سفينة نوح ، فكل حيوان هو جزء من التكوين الروحي للإنسان ، فالإنسان رمزيا مثل الضوء الأبيض حيث أنه ضوء مركب يتألف من إتحاد جميع ألوان قوس قزح ، وكل لون من هذه الألوان هو طائفة من طوائف المملكة الحيوانية .
فالبومة في هذه الملحمة التي ذكرناها ، تأخذ رمز الأشرار بينما هي في الحضارة اليونانية رمز للحكمة ، والعقرب هنا يمثل روح الخير بينما هو في الحقيقة رمز روح الشر ، لذلك اسمه في اللغة اليونانية (سكوربيوس ) ومصدر هذه الكلمة هو الفعل (سكوربيزو σκορπιίζω) ويعني أشتت ،أبعثر ، فاسم العقرب في اللغة اليونانية لم يأتي صدفة ولكن ضمن حكمة إلهية تعبر تماما عن روح السوء في هذا الحيوان ، هذه الروح هدفها هو تمزيق الروابط بين الأشياء كما يقول الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) . أما روح الخير فهدفها هي التوحيد كما يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
علماء تاريخ الحضارة المصرية القديمة وبسبب جهلهم بتفسير الرموز الروحية ذهبوا وفسروا الوثائق الأثرية بشكل خاطىء تماما ، فكتبوا أن ملك العقرب هو الذي وحّد بلاد مصر العليا ومصر السفلى ، ولكن رأيهم هذا يعتبر نوع من تشويه الأحداث التاريخية ، لأنه يجعل جميع الأحداث والتطورات التاريخية تسير ضمن مخطط عشوائي لا معنى له ، وإن الإيمان بصحته يؤدي مباشرة إلى تفكك جميع الروابط بين التاريخ والقصص الدينية ، ولهذا السبب نجد أن دور إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحادثة ذهابه إلى مصر لا تزال خارجة عن الدراسات التاريخية لمصر القديمة حيث أصبحت وكأنها قصة خيالية لا مكان لها في تاريخ مصر ، وكذلك قصة ذهاب يوسف عليه الصلاة والسلام وتعيينه كوزير هناك أيضا قد أصبحت قصة لا معنى لها وليس لها أي دور هام في فهم تطور بلاد مصر ، وكذلك قصة موسى عليه الصلاة والسلام نجد أنها قد خسرت معناها وحكمتها في دراسات تاريخ مصر.
إن إعتبار ملك العقرب بأنه هو الذي وحد مصر وانه هو الذي وضع أسس الحضارة المصرية القديمة يحطم جميع الروابط بين الدين والتاريخ والعلوم ويقلب الموازين رأسا على عقب . فمثلا أول عاصمة في الحضارة المصرية القديمة هي مدينة ( منفر ) ، ومعناها الجمال الخالد ، وكذلك اسم أول مؤسس لحضارة عصر الأهرامات أسمه أمحوتب ومعناه ( الذي جاء بسلام ) ، وهذه المعاني الروحية تعارض نهائيا الصفات الروحية للعقرب .
فالعقرب ككائن حيواني يعتبر حيوان غير إجتماعي يعيش حياة إنفرادية ، فإذا قابل عقرب آخر سيحدث صراع بينهما وسيقضي الواحد على الآخر ويأكله ، فالعقارب بشكل عام معروف عنها بأنها حيوانات كانفاليزمية ، اي أنها تأكل بعضها البعض ، وكذلك فإن طريقة التكاثر في حيوانات العقرب تعتبر غريبة وفي غاية الوحشية ،فنجد في موسم التزاوج يخرج الذكر ليبحث عن الأنثى وفي حال وجد ذكور أخرى تريد التزاوج مع نفس الانثى التي رآها فيجب عليه قتل بقية الذكور وأكلهم ليبقى ذكر واحد فقط ، ولكن و رغم كل ذلك قد لا تعجب الأنثى بالذكر الذي انتصر ، وعندها تقوم هي بقتله وإلتهامه ، ولكن إذا أعجبت به وقبلت التزاوج معه عندها تقوم برفع ذيلها إلى الأعلى ليعلم الذكر انها قبلت به ليتابع مراسم التزاوج ، حيث يبدأ الإثنان بالدوران حول بعضهما البعض فيتقرب منها، في هذا الأثناء يمكن لأنثى العقرب ان تجد بأن حركات الذكر لم تعجبها فعندها يمكن أن تقتله وتأكله ، ولكن إذا تركته يتابع اقترابه فعندها نجد الذكر يقوم بلدغها لتفقد قواها ووحشيتها ليستطيع تلقيحها ، فيأخذها إلى مكان مناسب وهناك يقوم بتلقيحها ، بعد التلقيح تنهار قوى الذكر عندها تقوم الأنثى بلدغه والتهامه ، وكأنه لم يعد له أي أهمية في حياتها .
بعد ولادة اليرقات تضعهم على ظهرها ، ونجدها كلما شعرت بالجوع تقوم بإلتهام بعض أطفالها ، أيضا اليرقات هي بدورها تأكل من الأفرازات التي تفرزها الأنثى من ظهرها فعندما تكبر هذه اليرقات تموت العقرب الأم ، فالأم العقرب تقتل الأب وكذلك الأبناء من خلال تغذيتهم على إفرازات الأم تقوم هي أيضا بشكل غير مباشر بقتل الأم ، بمعنى أن العقارب حيوانات مجرمة بالفطرة ، تكره بعضها البعض وتأكل بعضها البعض، لذلك كانت الحكمة الإلهية في سلوكهم أن يعيشوا حياة إنفرادية ليعبر العقرب عن المعنى الحقيقي لرمز روح السوء .
العقرب كحيوان يعتبر أحد رموز روح السوء ، فاسمه في اليونانية كما ذكرنا (سكوربيوس) والتي تعني يشتت، يبعثر. وكذلك أسمه في اللغة العربية يسمع وكأنه ( عاق - الرب ) . فكلا اﻹسمان لهما نفس المعنى ، ويعبران تماما عن عمل الشيطان والذي هو تمزيق وتشتيت الروابط بين الناس ليمنعها من التعاون فيما بينها . لذلك نجد أن الحكمة الإلهية في خلق هذا الحيوان قد أعطت الزوج اﻷول من اﻷرجل اﻷمامية في العقرب على ما يشبه الملقاط حيث يستخدمه في اﻹمساك بالفريسة لقتلها ، هذا الملقط يعتبر أول أداة قتل ظهرت في الكائنات الحية على سطح اﻷرض فقد ظهر هذا الملقط في حيوان مائي يشبه العقرب كثيرا لذلك سمي العقرب المائي قبل ٤٦٠ مليون عام .
للأسف إن كثرة مثل هذه الأخطاء في تفسير رموز المعاني الروحية التي يرتكبها العلماء والمفكرين في عصرنا الحديث جعلت الثقافة العامة لجميع أفراد المجتمع التي يكتسبونها من الكتب المدرسية ومن الوسائل الإعلام المختلفة ثقافة هشة متناقضة ، وهذا بدوره أثر على طبيعة سلوك أفراد المجتمع بأكمله فبدلا من أن يصبح المجتمع أكثر مثالية في سلوكه وأخلاقه وتعامله مع الآخرين بسبب التقدم العلمي ، تحول المجتمع الحديث إلى مجتمع وحشي متناقض حيث وصل تفكك الروابط الإجتماعية إلى العائلة نفسها ، فزادت حالات الطلاق لأتفه الأسباب ، حتى صلة الدم بين الأخوة والأقارب أصبحت علاقة ضعيفة ليس لها معنى .
نحن بحاجة إلى تغيير شامل في طبيعة القاعدة الثقافية التي نعتمدها في كل نشاط فكري نقوم به ، فكل شيء تعلمناه لا يعني أنه صحيح ويجب علينا ان نشعر بنوع من الشك لكل ما تعلمناه في العصر الحديث ، لأن هذه المعلومات هي التي دمرت الروابط الإنسانية ، لذلك علينا أن نتمعن في كل معلومة لنتأكد من صحتها لنستطيع تصحيح تلك الإحساسات الخاطئة التي دفعتنا في السير مع التيار الذي يصفه الجميع بأنه يسير نحو القاع .
وسوم: العدد 786