وجيز التفسير "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ"
" وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ "
معنى الآية برصفها وكلماتها واضح بين مكشوف.
ولتكرار كلمة الكذب فيها ثلاث مرات دلالته العجيبة المزلزلة لعالم الكذابين . وأبشع الكذب ما كان على الله وباسم الله وباسم رسول الله ..
ومع أن الكذب هو الكذب ، هو الخلق المزدرى المرذول والذي قال أصحاب المعاني في تعريفه : الكذب هو إخبار بغير الحقيقة . ثم اختلفوا بين سنة ومعتزلة ؛ فقال فريق هو إخبار بغير الحقيقة مطلقا . وقال آخر هو إخبار بغير الحقيقة حسب اعتقاد القائل . فَلَو أجبت السائل بأن اليوم هو الاثنين وليس الثلاثاء وأنت تعتقد ذلك ؛ هل تعتبر كاذبا ؟ هذا موطن خلاف بين المحققين..
الجديد في الآية القرآنية هو قوله تعالى " الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ " نحن أمام حالة يمكن أن نسميها الكذب المفترى لقضايا لا أصل لها ولا فرع. فهو الافتراء وهو الإفك .
وربما هذا شأن الذين يدسون أنوفهم بين الله وخلقه فيحللون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل ؛ ويحرفون أقوال الناس ليغمسوهم في دوائر الريبة والإثم بدل أن يلتمسوا لهم الأعذار ويحملوا أقوالهم على خير وجوهها .
هناك كذب مفترى إذن وأقبحه ما كان على الله ورسوله وخلقه في أمر دينهم وحقوقهم ، وهناك كذب قبيح غير مفترى يكون في أُسلوب المبالغات والتهويل الذي يتبعه بعض الناس في أحاديثهم وأخبارهم ، تتأخر عليه عشر دقائق فيقول لك انتظرك منذ ساعة ، أو يقول لك وهو الغريب المشرد في خيمته أو على رصيفه ، عندما كنّا في بلدنا كنّا ملوكا على أسرة!! وما كنّا والله كذلك كنّا مستورين بستر الله علينا؛ ربما هذا كذب دون كذب، كذب لا تستحل به الحقوق ولا تنتهك به الأعراض .
وانتهاك العرض ليس فقط في العمل المحسوس الذي حصره بعض الناس على سبيل التشنيع به ؛ انتهاك عرض المسلم أن يجلس صاحب بهتان وليس صاحب غيبة ولا نميمة وإنما صاحب بهتان يجلس إلى صاحبه فيفتري أحدهما للآخر الكذب تلمظا بأعراض الناس. وتلذذا بلحومهم.
إذن لننتهي في فهمنا للآية أن هناك كذب وكذب ، كذب مفترى وكذب دون ذلك يشين أهله ويصغرهم ويحقرهم ؛ ولكنه لا يبلغ مبلغ الأول في الإثم والظلم..
ثم إن الآية تضعنا أمام أفق أكثر أهمية ، هو القصد من كتابة هذا الوجيز ألا وهو : ان قول المفتري على الله: هذا حلال في تحليل الحرام ، كقول المفتري على الله : هذا حرام في تحريم الحلال . وليس الثاني أكثر دينا ولا تقوى ولا ورعا من الأول ..
كلاهما من الذين يفترون على الله الكذب وكلاهما من الذين لا يفلحون .
وكم عانينا في حياة جيلنا المحدودة من فقه الاغلاق وفقه الممنوع وعقلية التحريم والرفض لكل جديد...
حين اشتريت كتاب الشيخ يوسف القرضاوي في حلب في سبعينات القرن الماضي : الحلال والحرام في الإسلام دفعت ثمنه أربع ليرات سورية من ميزانية ضيقة ، نُهبت عن قراءته ، زعموا أن الشيخ القرضاوي متساهل وان له في الموسيقا قولا لا يتسق مع حديث من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ، ولم أقرأ الكتاب حتى اليوم ولكنني قرأت قيما بعد " أوضح الدلالات في سماع الآلات " للشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي من علماء القرن الحادي عشر..
وما دام الناس يحبون أن أضرب لهم الأمثال وعلى ذكر الشيخ عبد الغني رحمه الله وعطر قبره وكثر في علماء المسلمين أمثاله ، أتذكر فتوى تحريم قهوة البن التي تطاولت على مدى خمسة قرون وكانت من أجلها معارك وفتن وقتل وسجن وتدمير ..
نعم قهوة البن هذه التي نشربها والتي تطاول بشأنها كثيرون على الله يقولون : هذا حرام وكتبوا وأفتوا وأصّلوا وفرعوا وقاسوا وقال مسكر وقالوا تلهي عن ذكر الله
ربما من حق أن نسأل عن حظ هؤلاء الذين اجترؤوا فحرموا من نص الآية ومن مفهومها .
استمرت معركة تحريم القهوة قرونا ولم ينفع أن الشيخ عبد الغني رحمه الله - وهو الذي كان يرمز له ببقية الأحناف حتى عصره – أنشدهم:
قهوة البن حلال ما نهى الناهون عنها كيف تدعى بحرام وأنا أشرب منها
وحين أنظر إلى الوراء أتساءل كم باب من أبواب المصالح سُد على المسلمين بقول قائل لا يدري ما يقول : عن فنجان قهوة البن هذا حرام !!
وسوم: العدد 814