خواطر فؤاد البنا 847
كم يتعرض الإسلام لخيانة الكثير من المثقفين العرب، وكم يتعرض لطعنات الرسميين، حيث لم يكتفوا بالبعد عن هذا الدين بل أصبحوا يتآمرون عليه ليلا ونهارا. ورغم أنه أعزّهم من ذل ورفعهم من ضعة، وشرّف لغتهم بالقرآن الكريم وجعل صحراءهم محجة لكافة شعوب المسلمين، وأسلس قياد كثير من الشعوب ذات الحضارة العظيمة لهم، إلا أنهم أصروا على الارتكاس في الخنوع المهين والانتكاس إلى ذل الجاهلية؛ حينما كان يسميهم الفرس والرومان (كلاب الصحراء)، مع العلم أن عرب الجاهلية رغم فقرهم وضلالهم كانوا أكثر كرامة وأشد اعتزازا بأنفسهم من عرب هذا العصر!
**************************************
أصبحت الماضوية آفة تسكن عقول كثير من مسلمي عصرنا، وتؤثر على إدراكهم للحاضر ورؤيتهم للمستقبل، حيث يَحِنُّون بألم للماضي الزاخر بشيئ من الذكريات الجميلة على مستوى الأشخاص، ولو كان ذلك العهد ملطخاً بالاستبداد ومغموساً بالفساد، والعجيب أن هؤلاء الذين كانوا يلعنون العهد القديم في وقته صاروا يسمونه الزمن الجميل؛ ذلك أنهم يُدخلون مآسي الماضي في دائرة النسيان فتتضخّم حسناته، وحينما يقارنونه بالحاضر مع استحضار ضغط السلبيات فإنهم ينحازون بدون شعور للماضي !
**************************************
حينما نقرأ سيَر العظماء نجد أن كثيرين منهم ينحدرون من بيئات فقيرة، وهذا يعني أن كل واحد منهم قد جعل من تحدي الفقر فرصة لتفجير المواهب الكامنة في ثنايا شخصيته وحافزاً لإطلاق المَلَكات الثاوية في أعماق ذاته؛ فصاروا أعلاماً يُشار إليهم بالبَنان. ومن هؤلاء المعلم الثاني وأعظم فلاسفة المسلمين أبو نصر الفارابي الذي كان في مطلع شبابه يعمل ناطورا في بستان بدمشق. ومنهم أعظم علماء الفكر السياسي الإسلامي أبو الحسن (الماوردي) الذي كان يبيع (ماء الورد) في شوارع بغداد. وكذلك معاصره وزميله في القضاء وفي الفكر السياسي أبو يعلى (الفراء) الذي كان يبيع (الفرو). ومن يقرأ أي كتاب من كتب التراجم سيرى كم يوجد في أعلام المسلمين ممن اشتهروا بألقاب المهن التي كانوا يعملون فيها، مثل الزَّجّاج والبنّاء والحدّاد والنّجّار والصوّاف والجزّار والغزّالي.
وسوم: العدد 847