في عالم الأرقام
انتصار العبدالله
الأرقام والإنسانية.. هذه الثنائية العجيبة التي تظهر أمامنا لتفرض نفسها كواقع لا مفر منه.. في عالم ما فتأت الأرقام تغزوه شيئاً فشيئاً.. حتى أصبحت جزء لا يتجزأ منه.. واللغة السائدة فيه..
منذ يومين أحاول أن أخرج بعبارة ذات معنى لوصف الصدمة الإنسانية التي أظهرتها صور المعتقلين الشهداء المسربة في سورية.. وبالرغم من يقيني بوحشية هذا النظام وأن لا شيء يمكن أن يردعه عن ممارسة أفظع الجرائم بأقبح آلات القتل والتعذيب .. إلا أن توافد هذا الكم من الصور بتلك المشاهد المؤلمة.. على الرغم من تحفظ بعض وكالات الأنباء ووسائل الإعلام عن بث تلك اللقطات "لما تحتويه من مشاهد مؤذية" وسنركز كثيراً على ما بين الحاصرتين.. ونستشعر معاناة الأهالي الذين أُجبروا على رؤية أولادهم وفلذات أكبادهم بهذه المشاهد المؤذية بعد طول انتظار وأمل يحدوهم بقرب الفرج واقتراب اللقاء..
أما أنا فسأتجاهل هنا عدد المعتقلين الذي أختلف عليه.. وسأتجاهل اهتمام الهيئات الحقوقية والمنظمات الإنسانية برصد الأعداد وكتابة الأرقام.. لأن هؤلاء الشهداء.. لا يمثلون بالنسبة لي رقماً.. فكل واحد منهم كانت وقعات خطواته على الأرض تُسمع.. ويتردد في الأرجاء صدى ضحكاته وأنين آلامه.. كان لدمعه معنى.. ولغيابه ألم.. ولفقده فراغ لا يمكن أن يُسَد.. كل منهم يحمل آمالاً لا تتسعها هذه الدنيا الصغيرة.. وطموح يناطح السحاب بعلّوه.. وأصدقاء يستمدون منه طعم الحياة.. وأسرة تنتظره مساءً قرب المدفئة على العشاء..
إن كنا سنحكم على ذلك كله برقم.. فقد ظلمنا الروح التي كان يحملها ذلك الشهيد.. وأجحفنا بحق الإنسانية التي يمثلها..
وإن كان ولا بد أن نتعامل بمبدأ الأرقام.. فإنني سأقول إن الإنسان أينما كان... ومهما شغل من المناصب.. يبقى هو ذلك الرقم الصعب الذي تختلف عنده كل الموازين.. وتتعطّل في حضرته كل مبادئ الحساب التي عرفناها..