خاطرة 922
كأن حديثي إن تحدثتُ لاشيء ، وإن التزمتُ الصمت فصمتي لاشيء ، وهكذا إن رحلتُ ، وكذلك إن رجعتُ ، وبالتالي أبقى في حيرتي أتلمس وجهتي إن طلعت شمس نهاري، ولا أرضى بخسارتي إن غربت شمسه . ولكن مايقلقني هو أن تحتل ( اللاشيء ) أكبر مساحة في حياتي . فهل ضاقت عليَّ الحياة ، وتريد نفسي أن تختبر قدرتي على الصبر ، أم أنها اتسعت فكانت ( اللاشيء ) فضــاء رحبا أبحر في أعماقه ، أتخطَّى مايحول بيني وبين الأمل المخبأ الذي أتمنى أن أجده ، لأرجوه أن يمنحني فرصة الانطلاق إلى مساحات أوسع ، تساورني هذه الأطياف ، فأتلكأُ في حديثي معه بل مع نفسي التي هي كأنها هـو ، ولا أجد للمجاملة متكأ يمكن أن أرتاح لديه لأعيد الكَرَّةَ ، فأنتزع كلماتي من ثنايا حنجرتي ، وأحاول أن اقتحم بهـا الحجاب الذي بيننا . وأراني أُخذل مرة أخرى فأحمر خجلا ، ويلجمني الصمت ، وهكذا كلما أحاول لملمة حروفي ، وصياغة كلماتي تخونني شجاعتي ، وأحيانا تخنقني عبراتي ، وأضطر لأكتم شهقات وجعي .
أبكي …. نعم لأني أحاول أن أخبره كم أنا بحاجة إليه ، بل كم أشتاق لأخرج من غيبوبة استهلكتني فيها السنوات الطوال رغما عني ، آه لـو أجرؤُ على تحدي هذه العقبات ولكن هيهات لستُ أقوى ، فأسلاك الغربة الشائكة تمنعني من العبور ، إنها غربة وأي غربة سرقت مني سندي عند الملمات ، وعوني على شدائد الأيام ، وَبَنَتْ بيني وبينه ألف جدار ، ألوم نفسي مرات ومرات ... تصورتُه أمامي ، وبيده سماعة الهاتف ، وراح يحدثني بفكر عالٍ تنمقه بلاغةُ بيانِه ، وكأنه علم بحالي ، تسمرتُ وأنا أُصغي إلى أرقى العبارات وأسمى المواعظ التي لاتُسمع عادة إلا في محاريبَ حطَّت فيهـا القيم الفواحة بأشذاء المباهـج قُبيل الحصاد ... أشعر أمامه ــ هكذا ولست أمامه ــ كطفله صغيره أصغر من تلك التي ودعها منذ سنوات ، أجل كطفلة عاجزة … حائرة…. تحتاجه أكثر من أي شيء . ولكن من أين عساها أن تبدأ ؟ وكيف باستطاعتها أن تقول ؟ أتنفس من جديد نفسا عميقا وأحاول أن أبوح بما امتلأ به صدري . إلاّ أن حديثه أخرس كلماتي ورؤيته غطّت كل الرؤى التي يلوح طيفها أمامي ، آهٍ لــو باستطاعتي أن أشْبهه ولو لفترة ... قدرته على احتواء كل مَن حوله بإنسانيته المفرطة ، وتفانيه بالعطاء.. .المجزل لأولي الملمات الكبار، يالها من تنهيدة وصمتٌ مازال يريد أن يضج في أعماق نفسي .
لـم يغب عن حضوري ، فحضوره لايعرقله زحام الآهات ، ولا تمنعه عواصف اليأس ، وحديثه الزاخر بالأمل ، فيه نقلة ميمونة إلى حديقة التفاؤل التي أرى فيها جمال الحياة ، قال لي وأنا لم اتجاوز الحادية عشرة من عمري عيشي مع التفاؤل ، فإنك بدون التفاؤل كالدوحة بلا ساقية ماء تجري لتروي جذورها ، ومن الجذور تكون الأفنان والأوراق والأزهار والثمار . وبدون التفاؤل كأنك لوحة جميلة معلقة على جدار ، فلا تسمن ولا تغني من جوع ، لابد من التفاؤل الذي لايعبأ بزمهرير الشتاء ، ولا برياح الخريف التي تُسقط أوراق الأشجار ، لأن لناموس الحياة قانونا ، فلو لم يكن الشتاء بأمطاره ، والخريف وآثاره لَمَـا تجدد وجه الحياة ، وَلَمَـــا جاء الربيع .
وسوم: العدد 922