الوصية
للحكايات الغريبة معنى آخر ، حيث يشرد قارئهـا بفكره وعواطفه إلى مساحات أخرى من التحليل والتفسير للوصول إلى المقصد الأساس لتلك الحكاية . أذكر أني منذ زمن بعيد قرأت مقالا في إحدى الصحف الأدبية ، وكانت حول طاعة الوالدين ، والوقوف عند نصائحهما ، لأن الوالدين لايمكن إلا أن يرشدا أبناءَهما إلى أفضل الطرق ، واستشهد الكاتب بقصة تبدو وكأنها غريبة من نسج الخيال ، ولكن لدى بعض الناس من التصرفات تسوقه لفعل ماهو غير صحيح .
تتمثل الحكاية في أن رب أسرة سافر طلبا للرزق ، فحالته المادية والمعيشية تحتاج إلى المال ، فلديه امرأة وبنت وثلاثة أولاد . وكان أبناؤه يحبونه حبا جما ، ويكنون له كل الاحترام والقدير . ولا يعصون له أمرا ، ولا يقولون له ما لايرضيه ، وكان الأب كذلك يحب أبناءَه جميعا ، وما سفره إلى بلاد الغربة إلا لأجل أسرته ، لتنعم بالعيش الرغيد .
وبعد فترة من غيابه أرسل الأب رسالته الأولى ، وفيها يسأل عنهم وعن أحوالهم ، ويوصيهم ببعض الوصايا ليحفظ لهم دينهم وأخلاقهم ، إلا أن الأولاد لم يفتحوا الرسالة ، بل أخذ كل واحد منهم يقبِّل الرسالة ويقول : إنها من عند أغلى الأحباب، إنها من والدنا الغالي . وتأملوا الظرف من الخارج ثم وضعوا الرسالة فى علبة قطيفة حفاظا عليها ، وكانوا يخرجونها من حين لآخر لينظفوها من التراب ويعيدوها ثانية إلى مكانها في القطيفة . وتوالت رسائل الأب الرسالة بعد الأخرى ، وكان في بعضها تحويل لبعض المال لينتفعوا به . وهكذا فعلوا مع كل رسالة يرسلها أبوهم ، ومضت بضع سنين على هذه الحـال ، وعاد الأب ليجد أسرته لم يبق منها غير أصغر أبنائه ، فضمه والده إلى صدره ، ثم سأله أين أمك؟ قال الابن : وقد فاضت عيناه بالدموع لقد أصابها مرض شديد, ولم يكن معنا شيءٌ من المال لننفق على علاجها فماتت . قال الأب : ألم تفتحوا الرسائل التي كنت أرسلها لكم ، ففي بعضها تحويل مبالغ مالية لاحتياجاتكم ؟ والرسالة الأولى أرسلت لكم فيها مبلغا كبيرا من المال ، قال الابن: لم نفتحْها ، فسأله أبوه وأين أخواك؟ قال الابن: لقد تعرفا على بعض رفاق السوء وبعد موت أمي لم يجد من ينصحه ويُقومه فذهب معهم ، فأضاعوه كما أضاعوا أنفسهم .
تعجب الأب وقال: ياسبحان الله في رسائلي وصايا لكم جميعا تحذر من رفاق السوء ، وأفعال الشر . رد الابن قائلا: لا يا أبي ماكنا نفتح الرسائل ، قال الرجل: لاحول ولا قوة إلا بالله.. واين اختك؟ قال الابن: لقد تزوجت ذلك الشاب الذي أرسلتْ تستشيرك في زواجها منه ، وكان قدرها أن تتزوجه ، وهي تعيش معه الآن عيشة تعيسة . اشتد انفعال الأب ، وكاد يقع مغشيا عليه لهول ماسمع ، وقال : ألم تقرأ هي الأخرى الرسالة التي أخبرتها فيها بسوء سمعة هذا الشاب وسلوكه ، ورفضي لهذا الزواج ؟ قال الابن: لا يا أبي... لقد احتفظنا بتلك الرسائل في علبة القطيفة.. ودائما نجملها ونقبلها, ولكنا لم نقرأ الرسائل الموجودة فيها ، وكنا نضعها بين أيدينا ونذكر أيامك معنا ، ثم نقبلها ونضعها على رؤوسنا ، ونعيدها إلى مكانها في القطيفة الجميلة ، لتبقى للذكرى يا أبي .
تبدو الحكاية فعلا غريبة ، فالأسرة تشتت شملها ، وفقدت الأم الرؤوم ، والإخوة الأعزاء والأخت الفاضلة ... ولم يبق للأب سوى صبره على ماقدَّر المولى تبارك وتعالى ، ولكن أليس من الجهل أو البساطة أو الغباء أن تبقى الرسائل مغلقة ، لاتفتح ولا تُقرَأ وهي من الوالد الغائب ، من الذي يسعى لإسعاد عائلته ، أمر عجيب ، بل ربما يدعو هذا التصرف من هجران رسائل ملأى بالمال الحلال ، وبالنصائح الكريمة الحانية إلى نهاية مؤلمة ، بل وقعت النهاية المفجعة.
واستطرد كاتب هذه القصة قائلا : أما أنا فقد ذُهلتُ ، وأعجبتني القصة رغم أنها آلمتني كثيرا ، ففكرت فى شأن تلك الأسرة وكيف تشتت شملها وعاشت حياة تعيسة لأنها لم تقرأ رسائل الأب. ولم تنتفع بها, بل اكتفت بتقديسها والمحافظة عليها دون العمل بما فيها ، ولا أدري كيف التفتُ ساعتها إلى جدار غرفتي وفيها مصحف معلق في قطيفة جميلة ، و نظرت إلى المصحف ، إلى القرآن الكريم الموضوع داخل القطيفة ، وخطر على بالي مايمكن أن يصيبني من البلاء لهجري كتاب ربي إذ لم أفتحه أبدا . ياويحي .. إني أعامل رسالة الله إليّ كما عامل هؤلاء الأبناء رسائل أبيهم إليهم . انتابني حزن شديد ماشعرت بمثله أبدا في حياتي وقد جاوزت الأربعين عاما من عمري ، وَلَكم قرأت وتعلمت في المدارس عن القرآن الكريم ، وأنه منهج الحياة السعيدة للأفراد وللأمة بل وللإنسانية جمعاء .
حقيقة ... شعرتُ بتقصيري وببعدي عن ربي ، ولا أدري كيف اتجهت إلى مكان وضوء أبي وبقية إخوتي وأخواتي ، فأسبغتُ الوضوء ، وصليت ركعتين كنت أصلي مثلهما ولم أتجاوز العاشرة من عمري ، وفتحت القرآن الكريم ، فإذا بها سورة الفرقان ، فقرأت الآيات ووصلت في نفس الصفحة إلى قوله تعالى في الآية (30) : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) . فعاهدت ربي ألا أهجر كتاب الله سبحانه وتعالى أبدا ، لكيلا أكون من الخاسرين ، ولا أخيب عندا يفوز أهل القرآن بنعيم الجنان ورضوان الرحمن .
وسوم: العدد 1013