حاجة الأمة للتربية الجمالية
من منا لم يتلذذ بمرحلة الطفولة، و من منا لم يعش أفراحها، و يتمتع بلحظاتها الجميلة ، كنا حقا نستمتع بجمال و سحر الطفولة، كانت أيامها صفحة بيضاء مزينة بألوان الطبيعة الزاهية، لا زال جميعنا يتذكر كل لحظة جميلة عشناها في حضن الأم الدافئ، كنا نتذوق دفء العواطف، كنا نحسها عند كل لمسة و كل ضمة تبعث فينا الحياة. مع تلك البساطة كنا نجد متعة لا تصور.
لا زال جميعنا يتذكر جمال الأيام الماضية، نتذكر عرائسنا المصنوعة من القماش القديم البالي، و نتذكر الكرات المصنوعة من جوارب مرمية، المحشوة من قش و صوف، كانت بديلا عن الجلد المنفوخ.
مع تلك البساطة الأيام التي عشناها كنا نحلق مثل الطيور في سعادة لا مثيل لها ..
إن الجمال سر من أسرار الحياة، لا يدركه سوى البسطاء، الذين يتعاملون مع الحياة دون تعقيد، نعشق سحر كلمات بسيطة، فترسل من شفاهنا ابتسامات صادقة ، لا مكان فيها لحقد أو حسد أو غل .
إن سحر الجمال ندركه في جلسة صفاء مبسوطة في فضاء الطبيعة الرحب ، تتفجر في داخلنا روحا متجددة، تمنحنا طاقة و حيوية، فيها تتناغم أرواحنا مع صدق الطبيعة فتكون الجلسة لقاء وئام تتصالح فيه الأجساد مع الأرواح ، فنرى الدنيا بعيون السعداء .
و يدرك الجمال في استراحة روحية في محراب التعبد ،و نحن نستمع بلذة الإيمان المتدفق من أنوار الهداية ، فندرك الجمال الحقيقي الذي يبحث عنه الذين يعيشون الغربة و الانفصال أن الجمال موجود بداخلنا،؛ لكن القليل من يدرك سحره الأخاذ ، إن الجمال الذي نبحث عنه قد تصنعه نوطة شعرية أو لطيفة أدبية أو صورة جميلة، تصنع بداخلنا متعة لا تشترى بالمال.
ليس لغيره، فإن كل من يدرك الجمال و الحس المرهف يسيح في الملكوت، يتأمل الجمال في كتاب الله المفتوح، يدرك المتعة الحقيقية حين نتأمل جمال الطبيعة في شطآنها و نرى الجمال في جبالها و سهولها ، في مروجها المبسوطة الخضراء .
و قد ندرك الجمال المكنون في بديع صنع الله، في كل العوالم، ندركه في جمال الطيور و الازهار و الخيول و الإبل.
إن سحر الجمال الذي نبحث عنه يعطينا شعوراً بالاستمتاع، بل يوقظ داخلنا طعم الإيمان ونحن نبصر و نرى عجائب عظمة الله في خلقه.
و قد ندرك الجمال و حسنه في صفاء القلوب، و حسن المعاملة، و قد ندركه في سرور تدخله على مريض نخفف ألمه ، نعيد له ابتسامة الأمل بعد حرمانها ، و ندركه حين تُملأ النفوس بعواطف الحب الصادق الخالي من المطامع، حين يخلو الحب من نزوات و رجاسة المادة الرخيصة التي تكدر صفو الحياة و جمالها .
إن الحسن و الجمال أفسدت طعمه رعونة طباعنا، و جفاء معاملتنا، و انصراف شاغلنا في صروف الدنيا لإشباع نزواته الرخيصة و هروبنا من أنس الحياة الجماعية إلى حياة الأنانية، فصرنا لا نبصر الجمال، و لا نبصر الحسن، نابض حاسة إدراك الجمال فينا أصابه عطب كبير، عطل وظائفه و حبس منافعه.
تظل حاجة الإنسان اليوم للحس الجمالي و حاجتنا لمعاملات الأريحيات و الأذواق مفقودة حاجة ماسة ، و مرد ذلك كله، غياب الاهتمام بالتربية الجمالية، التربية الجمالية التي تحول البيوت اليائسة لبيوت سعيدة، التربية الجمالية التي تزيل جفاء طبعنا و غلظته، من عقوق و تشدد، من شحناء و خصام إلى الفجور في الخصومات ، كل تلك الصفات السلبية هدمت بيوتنا السعيدة .
لهذا كله يتوجب على الأسرة والمدرسة ومؤسسات المجتمع وجوب المساهمة لإرساء منظومة القيم الجمالية في مناحي حياتنا كلها ، حتى تصوغ لنا مجتمعا صالحا محبا ، يكون نتاجه أسرة سعيدة بعيدة عن التفكك و الضياع و يكون نتاجه أبناء بارين ، يكونوا لبنات صالحة لمجتمع صالح.
وسوم: العدد 1091