يكاد يقتلنا الشوق يا سوريا الحبيبة
هي قهوتك بلهفة الحنين!!
يكاد يقتلنا الشوق يا سوريا الحبيبة
فراس حج محمد /فلسطين
في المساء تأتي إليّ قهوتك محملة بكل أشواقها بعد غياب، تأتي إلي وكلها شوق واشتياق، أنظر إليها وقد فاضت بأنتها تبكي على أوضاع من شربوها هنا أو هناك في وطننا الكبير، تتذكر آلام المسحوقين المقهورين والمغلوبين على أمرهم، وقد حرموا من أبسط حقوقهم، تأتي إليّ قهوتك وهي تشتاق أن نشربها على ضوء مصباح كهربائي أضحى منطفئا لأن هناك غولا يجثم في الأسلاك يقطع عنها حرارتها، فتبكي برائحتها التي امتزجت وتداخلت مع برازخ العتمة الحالكة والظلم المتمدد في كل أنحاء المكان والزمان.
هي قهوتك التي اشتاقت لرشفة الأحباب على أنغام أغنية مسائية تهدل كهديل الحمام، فأين ذهب الحمام؟ لم يعد كما كان، غادر أروقة البنايات العتيقة، وقد أفزعه تطاير الأشلاء، أفزعته الريح المحملة بأنات الثكلى والموجوعين المحرومين من أبسط الحقوق الإنسانية، محرومين من الخبز والنار والضوء، حتى الشمعة لم تعد تجدي نفعا، فكيف حال قهوتك الآن وهي تغيب برائحتها فيقضى الوجع على أنفاسها فترتد بين الأغطية مكلومة القلب مجروحة الكلام لا تقوى إلا على الذكرى الجارحة.
هي قهوتك التي تلمّ كل مشاعرنا ونحن نتجرع الكارثة وجعاً تلو أخيه، هي قهوتك التي تتوئم الروح، تلمها وتنقلها افتراضيا إليّ، أقول لك "افتراضيا"، فأنا هنا حيث وحوش الغاب تنهش لحومنا، وأنت على مشارف الموت، حيث الترقب والأفق مفتوح على اللاشيء، فما هنا وهناك قافيتان منزوعتا اللحن مجردتان عن النغم، حيث أنا في مسارب الحمئة والطين، وأنت في مسالك الفرح المغتال كل ثانية، فما بين المكان والمكان لا يظل سوى العبث، هو ما يستلذ بأرواحنا ويستعين على مطلق إيماننا فنكاد نشك بكل أمل، ولكن أين هو الأمل؟ وها نحن نرى البلاد تتقلص على نفسها لتدور بدائرتها في كل أرض تنتفض ضد المستغلين الفاسدين الفجرة.
هي قهوتك وحدها من تحمل عنا ما نشتاق إليه من دفء وحنان ولقاء ووصال، هي قهوتك وحدها من تعرف السر ومطلق الأفكار، هي وحدها من نستطيع أن نناجيه ونحن في هذا البعد القسري الذي فرضته آليات العقول التي تفننت في شقائنا وتعاسة القمر الحزين الباكي لمناجاة الأحبة الراحلين، قتلى ومشردين، هي وحدها من تحمي ما تبقى من نور يغمر النفس بفيض الحب الذي يسكنني رغما عن كل من يسعى ليقتلني بالفراق، ويبني بيني وبينك الأسوار الشائكة، فيحاول فصل الروح المتحدة في المطلق، فهل بمقدور أي بشر أن يفصل روحين اتحادا وتمردا على كل القوانين؟
يا ليت كل الطغاة يعلمون أننا سنهزمهم بحبنا وبرائحة قهوتنا التي عشقناها وعشقتنا، يا ليتهم يتدبرون ويعتبرون من كل تجربة كتبت نهاية الظلمة ونحتتها في ألواح التاريخ وصخر الذاكرة، يا ليتهم يعرفون أن فنجانا واحدا من قهوتك سيفجر كل عرشٍ أمر صاحبه أن يدمر بلدا كاملا بكل حضارته وتاريخه، يا ليت أنه عرف أن جلسة تفوح منها رائحة الروح الممتزجة حبا برائحة القهوة تساوي عمر الكون والتاريخ الذي تلطخت صفحاته برائحة الدم الفائر من شرايين الشعوب وعرق جبينها، وهي تناضل لتحرس ورد الياسمين المنثور في أكاليل الأماسي الحالمة، فأين أنت أيتها الساكنة في دمي نبضا يحيلني ترنيمة حب وخلاص لوطن يحلم بالنور وشمعة اليقين بغد أفضل، وبلحظة نتشهاها ونتهجى أمنياتها مع كل رشفة من فنجان قهوتك العابقة بالسنا والأمل والذكريات الخالصة من كل همّ.
هي قهوتك وحدها المحملة باليقين والحنين ودفء السنين الباقية الآتية على أجنحة الغد، ولعله قريب، لنتشرب فنجاننا في ربوع الشام الحبيبة التي اشتاقت لفوح القهوة وبوحها متعانقة مع ذلك الحنين لروائح الياسمين تعبق من كل بيت فتعطر الكلام بنسيم غنائها العذب، وقد تعانقت الصورة والمعنى في روح واحدة في جسدين مشتاقين ليغسلا أوجاع الألم الباكي وتعود البسمة للقلوب فتحدث أحاديث الشوق لكل ما هو جميل، فيا ليته قريب!!