في قلبي مرجل من الأحزان، وحقدي عليها لا يكاد يوصف!
في قلبي مرجل من الأحزان،
وحقدي عليها لا يكاد يوصف!
فراس حج محمد /فلسطين
كيف تأتيني هكذا وتستسلم بين راحتي وتغوص في أعماقي، وتسلبني اليقين؟ كيف تشعلني وتتركني رمادا أجتر أحزني وتهرب؟ كيف تنقلني من صحرائي إلى جنة عرضها قلبها الأبيض، ولم تمنحني إياه سوى بعض وقت مر كلمح البصر؟ كيف ارتحلت؟ وكيف أتت؟ كيف تركت روحي بين يديها واستسلمت لها؟ كيف أموت كل يوم عندما ألمح ظلالها؟ كيف تركت الشك يلعب في أعصابي؟ كيف أصبحتُ عديم الجدوى في حياتي؟ كيف تركتني وذهبت؟ يا ليتها تعود! يا ليتها تعود!
هل سأحقد عليها؟ هبة من نار أحشائي جعلتني أعاند نفسي، فكيف رضيت بعذابي؟ وكيف تراقصت فرحة بغيابها عني، ليلها ونهاري تستعذب أناتي وآلامي، ليس لها من شغل إلا أن تراني بائسا وسقيما، وفاقدا لتوازني، أتقنت طقوس الحضور، وأبدعت في طقوس الغياب، هل لي منها من خلاص؟ هل فعلا أحقد عليها كما ينبغي لقتيل أن يحقد على قاتله؟
لست أدري، كل ما أدريه أنني أحببتها حتى صار الحب وهما قاتلا، لقد جبلت أحلامي بفجرها حتى صرت أرى طيوفها وحروف اسمها في كل لغاتي الأرض تناديني، صرت أراها عند طلعة قمر كان يحرسنا في ظلاله، ويستر أشواقنا، كان يعرف لوعة أنفاسنا كيف كانت تخرج والهة، لا نكاد نغيب حتى يكون الحضور، كانت تتجلى كعرائس الموج، تهديني بريق عينيها وفيض رحيق جمالها، لقد غابت وابتعدت وشدت في الغياب!!
يا ليتها تعود، وهل ستنفعني ليتُ، يا ليتها تجمع ما تناثر من دمائي في رمال زمانها المر، يا ليتها تعود فأسمع جلجلة صوتها تغمرني فترتفع حرارة الجسم، وتدب في الروح الحياة، يا ليتها تعود فتتجلى شبه رؤيا تستقيم بجملتي الأولى والأخيرة، لتكون سري ومعناي وشوقي وانتظاري، يا ليتها كانت معي، لتكون قربي في كل ما حملت لها من ربيع هي من أسقت وروده، غابت فيبس النرجس وجف الياسمين وحزنت أزهار اللوز ، وتكاسلت عطور الجوري، وخجلت من بوحها وحنينها، يا ليتها تعود!! يا ليتها تعود! ليعود الفرحُ لتكون لي كما أنا لها، فكل النساء من بعدها وهْم وسراب، فهي التي كانت لحياتي حياةً وغيابها هو الموت المحتم.
يا ليتها لم تعلمني كيف يكون العشق أغنية مسائية ناعمة الملمس، يا ليتها لم تعلمني فنون الضرب على أوتار عود حسنها لأكون ألطف، ليتها لم تسكب دمائها في دمائي لأصير أطهر، ليتها لم تكتب لي يوما أحبك، ليتها لم تعرفني وليتني لم أستنشق عطور أنوثتها، يا ليتها بقيت هناك في المطلق رائحة وغادية، لا يسمع بذكرها قلب ولا يعرف جمالها جنوني، ليتها تعيد بصيرة رؤياي، ليتها تخرج من وجعي ودقة قلبي يا ليتها لم تحبني يا ليتها لم تكن، يا ليتها لم تكن في حياتي.
لقد أوجعتني وشرذمتني، أفقدتني لذيذ المنام، كان الليل لا يعرفني، فصارت معاركي معه لا ينهيها إلا خروج راية الفجر معلنة انتهاء الجولة، لأعود متأهبا لمعركة أخرى بجولاتها المستمرة، لا أعرف إلا أحزاني، ولا أشرب إلا آلامي، أسفي يزيد وخسائري مستمرة، ولا بوارق أمل، لقد كانت احتلالا لا يعرف من الرحمة أدناها، ولا يعرف من القوانين غير اسمها، تتشدق بها ذات مساء هنا وهناك، وقد تركت ظلام الليل يزداد اتساعا ويزداد رهبة وحلكة، لقد جندت عساكر وقتها للقضاء علي، وقد نجحت، خسرت نفسي وخسرتها وربح الليل الظلام، واستعد ليكتبني في الميتين لحين أن أجد نائحة تشفق عليّ، فترثي آلامي، أو يدا حانية لا لتنقذني، بل لتهيل علي تراب الغياب، بعد أن تطلق علي رصاصة الرحمة.
ربما الآن أو بعد مسافة موت مؤجل تجد الجثة تصيح بها، لن يكن بمقدوري جمعك والسير أكثر في مفازة لم أفز بها، تهت وتاهت النفس وتجمدت الجوارح، فليس باستطاعتها السير، غطتها رمالك المنثورة بعواصف الجرح النازف، لم يتبق لي من القاموس سوى كلمة واحدة، فلتسمعيها للمرة الأخيرة مني: ارحميني!!