ثورة الحرّيّة والكرامة.. خواطر وبصائر..
ثورة الحرّيّة والكرامة.. خواطر وبصائر..
د. عبد المجيد البيانوني
يقول الله تعالى : ( .. ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله .. ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم .. وعد الله لا يخلف الله وعده ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون .. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون .. ) ..
استوقفتني هذه الآيات الكريمة في بدايات سورة الروم ، وكأنّها تتحدّث عن واقع شعبنا المجاهد المرابط في بلاد الشام .. الواقف بصوته الصادح ، وصدره العاري ، وظهره المكشوف ، ليس له في محنته إلاّ الله .. وقد تخلّى عنه الأقربون ، وجفاه الأبعدون ..
إن ّهذه الآيات تحرّر المؤمن من أسر الواقع ، واقع المحنة والابتلاء ، وتحلّق به في آفاق قدرة الله المطلقة ، التي لا يعجزها شيء ، ووعده الذي لا يخلف ، وتصل دنيا المؤمن بآخرته ، وتقرّب بينهما ، بل تصل بينهما بما يجعل الآخرة حاضرة في قلب المؤمن وعقله ، وفي كلّ لحظة من حياته ..وقد خطرت لي خواطر ورؤى من وحي هذه الآيات أحببت أن أسجّلها :
(1)
إنّ الصورة التي تجري على أرض سوريّة الحبيبة ، بكلّ أجزائها وتفصيلاتها ، وتبايناتها ووحشيّتها .. هي صورة مكشوفة مجسّمة ، عن واقع السجون والمعتقلات ، التي زرعها النظام الطاغي على مدار عقود من السنين في طول البلاد وعرضها ، وتفنّن في قهر الشعب وإذلاله فيها .. فهي ليست غريبةً على الشعب السوريّ ، الذي يعيش المعاناة والقهر ، والذلّ والبطش منذ عقود ، ولكنّ النظام القمعيّ الظالم كان يزوّر الحقائق ، ويفتري الأكاذيب ، ويعتّم على فساده وجرائمه ، بآلة إعلاميّة ضخمة محتكرة ، ويتواطأ معه أسياده ، الذين يرون فيه حامي حمى إسرائيل .. ولكنّ اليوم غير الأمس ، والجيل الجديد غير سابقه ، وسبحان العليم الحكيم ، مالك الملك ، مغيّر الأحوال ، وقاهر الجبابرة ، ومذلّ الأكاسرة ..
(2)
لماذا هذه الثورة .. ثورة الحرّيّة والكرامة .؟ إنّها ليست طموحاً سياسيّاً ، لمنازعة حاكم ولا منافسة على مناصب ومغانم .. إنّها ثورة السجين على جلاّديه ، وثورة مسلوب الحرّيّة والكرامة على سالبيه وغاصبيه ، إنّها ثورة على قيود العبوديّة التي تتراكم على الأيدي والأرجل والأعناق عاماً بعد عام .. حتّى بلغت نصف قرن .. إنّها ثورة على القهر وإهدار الحقوق ، التي تقايض بالكرامة ، وترهن بالاستعباد ، ويستبدل بها التسبيح والتقديس للطاغية مقابل أدنى الفتات ..
ومنذ نصف قرن ، والنظام المتسلّط على سورية يعتمد سياسة العصابات ، والمافيات القذرة في الاغتيالات للتعامل مع خصومه السياسيّين ، والتخلّص من حلفائه الأقربين ، والانتقام من شركائه ، والإيقاع بين الفرقاء المختلفين..
وإنّ سجل الاغتيال السياسي الذي تورّطت به أجهزة القمع السورية هو الأكبر والأضخم مقارنة بأيّة دولة أخرى، ولم يقتصر الاغتيال السياسي على حدود سورية فقط ، بل امتدّ إلى كل أنحاء العالم، من الكويت إلى لبنان، ومن مصر إلى ألمانيا..
إنّه لم يتورّع ، ولن يتورّع حتّى عن اغتيال أقرب حلفائه وداعميه ، والمتحالفين معه ، أو أبنائهم ، في سبيل مقايضة سياسيّة ، أو إيصال رسالة متعدّدة الاتّجاهات ، أو إحداث زوبعة يغطّي فيها على بعض جرائمه ومخازيه !
وإنّ من قصور الإنسان وضعفه أن يقف أسير اللحظة الحاضرة ، فلا يستشرف آفاق المستقبل ، ولا يستنطق سنن الله في الخلق .. فربّما سارع اليأس إلى قلبه عند ذلك والإحباط .. فانسحب من الواقع ، وألقى سلاحه ، ونادى على نفسه بالهزيمة ..
(3)
الحرّيّة والكرامة توأمان لا ينفصلان ، أو هما وجهان لعملة واحدة .. فحرّيّة الإنسان تولد مع ولادته ، وكرامته هي من إرهاصات وجوده .. أي من حين اكتشاف حمله .. ألم يقل ربّنا جلّ وعلا : ( .. ولقد كرّمنا بني آدم .. ) ، وقال الخليفة الفاروق الراشد عمر رضي الله عنه : " متى استعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً .؟! " وها قد هبّ شعبنا السوريّ الأبيّ يطلب الحرّيّة والكرامة .. بعد عقود من الصبر على الذلّ والهوان ، والاستبداد والطغيان .. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن تتحلّى النفوس بثقافة الحرّيّة والكرامة .. التي تقتضي أوّل كلّ شيء أن نحترم الإنسان أيّاً كان .. انتماءه وعرقه ، ومذهبه في الحياة ودينه .. وأن نحترم رأيه وفكره ، وحقّه في التعبير عنه بكلّ وسيلة مشروعة ، وأن نلغي من قاموس تعاملنا مفردات التخوين والاتّهام ، التي هي جزء من اختصاص واحتكار لغة النظام وثقافته ، وزرعه وإنتاجه ، وقد أجهد نفسه ، وجنّد طاقاته كلّ هذه العقود من السنين لصناعتها وإنتاجها ، وزرعها وسقايتها ، وتسويقها وتصديرها ، حتّى جعل شعبنا الأبيّ ممسوخ الكيان ، مشوّه الشخصيّة ، تسبق تلك الثقافة العفنة على لسانه قبل فكره ، وتسيطر على فكره قبل عقله .. وهل الاستبداد والطغيان الذي يثور عليه شعبنا الأبيّ إلاّ هذا .؟! فما بال بعض الناس لا يزال تسيطر على لسانه وفكره لغة التخوين والاتّهام ، والسباب والإرهاب الفكريّ والنفسيّ .؟! أيظنّ هؤلاء أنّ الشعب يهرب من استبداد إلى استبداد ، ومن ثقافة فساد إلى أختها .؟! إنّ على هؤلاء أن يراجعوا ثقافتهم فيثوروا عليها ، ويتطهّروا منها قبل أن يعلنوا الثورة على نظام الاستبداد والفساد .. وإلاّ فإنّهم ساقطون نفساً ، وساقطون فكراً ، وساقطون مجتمعاً .. ولن يقبل شعبنا بعد اليوم بمثل هذه العقليّة المتخلّفة ، واللغة البائدة ، والثقافة المفسدة ..
(4)
وما يجري اليوم في سورية ملحمة من ملاحم الجهاد التاريخيّة النادرة ، ملحمة من أروع ملاحم الصراع بين الحقّ والباطل .. ملحمة يقف فيها الإيمان أمام الكفر والنفاق ، ويقف الصدق أمام الكذب والدجل ، والخداع والتلبيس ، ويقف العدل أمام الظلم والقهر ، والبغي والعدوان .. ملحمة يقف فيها شعبنا الأعزل المصابر أمام آلات القتل الثقيلة المدمّرة ، ووحشيّة الإنسان ، إذ يتجرّد من كلّ القيم ، ويتسلّط على أخيه الإنسان ..
ملحمة يكتبها الأطفال والنساء ، والشباب والرجال ، والشيوخ المستضعفون .. ملحمة تسطّر حروفها بدماء الشهداء ، وبكاء الأطفال ، وأنّات الثكالى ، ودعاء الأرامل ، وجراح المعذّبين ، وآلام المعتقلين ..
فهل ينسى التاريخ ما يجري على أرض الشام .؟! وهل يغفل عنه فلا يسطّره .؟!
(5)
ولئن ضاعت الحقيقة أو ضيّعت عند بعض الناس ، حتّى من السوريّين أنفسهم .. فإنّ التاريخ سيذكر تلك الدماء الزكيّة ، التي روّت تراب الوطن بغير حساب ..
سيذكر التاريخ بلا تزييف إعلاميّ كاذب ، ولا دعايات مضلّلة ، أنّ هذه الدماء التي أريقت في سبيل حرّيّة الإنسان وكرامته .. في سبيل وقف تيّار الفساد الهادر ، الذي ضرب جذوره في الأرض ، بتعمّد وسبق إصرار ، وفي أعماق بعض النفوس ، واستشرى بتخطيط ماكر عقوداً من الزمن ..
سيذكر التاريخ أنّ أصالة هذا الشعب لا يمكن أن تغيّب ، أو تمحى ، أو تستبدل .. إلاّ إذا استُبدل تكوينُ الإنسان نفسه ، فأصبح مخلوقاً آخر ..
سيذكر التاريخ .. ولا يمكن لأحد أن يزيّف ذاكرته : عمق الجرح الغائر ، الذي شقّه الأب الطاغية في جسد الوطن ، وما صنع له من نظام مغرق في الفساد .. ثمّ ورثه الابن كما تورث المزرعة وقطيع الغنم ، ليكمّل ما اختطّ أبوه ..
سيذكر التاريخ عمق الجرح الغائر في كيان الإنسان السوريّ ، وما عانته شخصيّته من تشويه وإفساد ، وتخريب وتدمير ، حتّى أصبحت ترى المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والزور والبهتان حقّاً مقدّساً ، والكذب صدقاً ، والإفساد في الأرض إصلاحاً ، لا يشبهه إصلاح .. وغدت تدعو إلى المنكر ، وتنصر أعوانه ، وتحارب المعروف ، وتستخفّ بأهله .. وإنّها لغربة للحقّ ما بعدها من غربة ..
سيذكر التاريخ أنّ طاقات الأمّة ومواردها ، وخيراتها وثرواتها أهدرت كلّها بين أيدي الطاغية وأعوانه ، وجلاّديه وأذنابه ..
سيذكر التاريخ أنّ هذه العظمة الكاذبة المصطنعة ، التي بناها وبنيت له ما كانت إلاّ أوهاماً خادعة ، ونسجاً واهناً من خيوط العنكبوت ، أحيطت بهالات من الأوهام والأكاذيب ، فذهب ضحيّة زيفها وخداعها أولئك المفتونون ، وثبت أمامها فرسان الحقّ الأحرار ، الأشاوس الأطهار ، الصابرون على المرّ ، القابضون على لهيب الجمر ، الظاهرون على الحقّ ، كما بشّر بهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم ، حتّى يأتي أمر الله ، وهم على ذلك ..
(6)
ولا عجب من كلّ ما يحدث في هذه الثورة المُباركة ، فالذهب يعرض على النار ليذهب خبثه ، ويُحرَق صدأه ، وتظهر حقيقته ، ويسطع بريقه .. ( .. فأمّا الزبد فيذهب جفاءً ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، كذلك يضرب الله الأمثال (17) ) الرعد .
لقد شاءت إرادة الله لهذا الشعب الحرّ الأصيل أن يكشف عن أصالة معدنه ونفاسته ، وأن يميز الخبيث من الطيّب ، فيفضح أولئك المنافقين ، الوصوليّين المنتكسين ، الذين جعلوا من الوطن العزيز مرتعاً لكلّ خسيس ، وجعلوا من أبنائه الأحرار سوقاً للنخاسة ، يبيعون فيها ويشترون ، ويساومون ويماكسون ، ويزايدون ويتناجشون ، بلا حاجز يحجزهم ، ولا ضمير يردعهم ، وراجت تجارتهم الزائفة الخبيثة ، على حين غفلة من أهل الحقّ واستغفال ، فحسبوا أن سوق نخاستهم ستدوم أبد الدهر ..
(7)
ولقد شرعتُ قبيل هلاك طاغية ليبيا بأيّام بكتابة مقالة عن توقّع هلاكه القريب ، وإرهاصات ذلك ، ففاجأنا الحدث قبل إتمام المقالة ، فنظرت إلى مسوّدة أفكارها بين يدي فكأنّها كتبت منذ عشر سنين .. وإنّ واقع الثورة في سورية ليبشّر بمثل ذلك ، وإنّه لصبر بعده الفرج بإذن الله .. فانظروا إلى الأمور ببصائر الإيمان ، لا بالأبصار الكليلة ، وضعف الإنسان ، وبنور الحقّ لا بوساوس الشيطان .. ( إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه ، فلا تخافوهم ، وخافون إن كنتم مؤمنين ) .
(8)
وأنت أيّها الطاغية ، ومن سار في فلكك وركابك ! ومن أعانك على قتل شعبنا الحرّ وتعذيبه ، ولو بكلمات التأييد ، ولو بشطر كلمة ، ولو بصمت الموتى ، أو قسمات الرضا على الوجوه .. نقول لك بكلّ ثقة ويقين بوعد الله ونصره ، وإيمان بعدله وحكمته : إنّ يوم سقوطك بإذن الله قريب قريب .. وإنّ ساعة الحساب تتراءى لنا كما تتراءى الشمس من وراء حجب السحاب الرقيق ، وما بين سطوعها وإحراقها إلاّ لحظات مرور السحاب وانقشاعه ، وإننا على يقين بالله جلّ وعلا ، أنّك تعيش في بؤس بئيس ، وشقاء تعيس ، لا ينافسك فيه إلاّ من كان على شاكلتك من الطغاة المجرمين ، وأنّك تتخبّط في ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلّ لحظة قادمة تحمل لك من البؤس والعذاب ما لا تتخيّل .. وإنّ موتك أو حياتك ، وإعدامك أو هربك سيّان أمام ما تعيشه من شقاء لا يمكن لبشر أن يطيقه .! هذا إن بقي فيك ذرّة من كيان البشر أو مشاعر البشر . ..
وأنتم يا أعوان الطاغية وأزلامه وشبّيحته ، منكم القتل لنا , ولنا وسام الشهادة ، وشرف الدم ، وكرامة الخلود .. ومنكم الخيانة للوطن شعبه وتاريخه ، أرضه وسمائه ، ومنّا الإخلاص للحقّ وحمل الأمانة .. ومنكم التجييش الطائفي ، وبثّ الحقد وإشعال الفتن ، ومنا الحرص على وحدة الشعب ، وحسن التعامل والتعايش .. ومنكم الكذاب والشبيح ، والمخبر الخسيس ، ومنا الطفل الشهيد ، والمرأة المجاهدة ، والثائر الحرّ ، والمثقّف والأديب ، والمعتقل المصابر .. ومعكم الظالمون المستبدّون ، والمنافقون المطبّلون ، أعداء الحقّ والحريّة ، والوطن والإنسانية ، بسلاحهم وقواتهم ، وتشجيعهم وتأييدهم ، وفكرهم الفاسد الخرب ، ومعنا الله جلّ جلاله ، ومعنا قوى الحقّ والعدل ، والحرية والكرامة ، ومعنا أحرار جيشنا الأبطال ، أهل الأمانة والشهامة ، والعزّة والكرامة ..
وإنّا لمنتصرون بإذن الله غالبون ، وعد الله لا يخلف الله وعده ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون .. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون..
اللهم فارج الهمّ ، كاشف الغمّ ، مجيب دعوة المضطرّين ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، أنت ترحمنا ، فارحمنا اللهمّ برحمة تغننا بها عمّن سواك ، واجمع كلمة عبادك على الحقّ والتقوى وعجّل بالفرج على عبادك المؤمنين ، برحمتك يا أرحم الراحمين .