الشجى يبعث الشجى

عبد الله زنجير * /سوريا

[email protected]

مسح الشيخ التونسي رأسه قائلا : لقد هرمنا هرمنا ونحن ننتظر هذه اللحظة ، قبل أن يغص عصي الدمع .. إنها من أكثر اللقطات تأثيرا وتعبيرا

منذ أكثر من ثلاثين سنة و المنافي تلف رجالات سورية و أحرارها ، منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا

أتذكر الأحاديث عن ( سورية ) من شاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري ، ومن فقيه العصر مصطفى الزرقا ، ومن السياسي الدكتور معروف الدواليبي ، ومن العسكري القائد عبد الحق شحادة ، ومن المفكر الوزير محمد المبارك ، ومن الداعية الأشم سعيد حوى  ومن الأديب الثائر محمد الحسناوي ، ومن العابد الزاهد حسن الهويدي ، ومن الأستاذ الرائع هاني الطايع و غيره و غيره .. رحمهم الله جميعا و أسكنهم روضاته ، و كلهم كان يتوق لعيونها و فيافيها ! وكلهم كان يتلو : رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا

أبو دجانة الذي أنشد : ما فل ثورتنا تشريد إخوتنا / فالأرض واسعة والله راعينا ... ابيض شعره في عجمان بدولة الإمارات ، وصار أولاده شبابا

الشجى يبعث الشجى ، و هذه سطور كتبها أديب العربية الأكبر الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - الذي كان يبكي كلما ذكرت الشام أو ذكرت ابنته بنان : ... ما صدقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات و نصف السنة ، وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت ، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف أنها ستعلمني على عادتها أنها بخير لأطمئن عليها . تكلمني مستعجلة ، ترصف ألفاظها رصفا ، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها ، و أن هذا المجرم ، هذا النذل .. هذا .. يا أسفي ، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله . ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام ، إن في العربية كلمات النذالة و الخسة و الدناءة ، و أمثالها ، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها ، ثم اقتحم عليها ، على امرأة وحيدة في دارها ، فضربها ضرب الجبان ، والجبان إذا ضرب أوجع ، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها و في وجهها . ما هربت حتى تقع في ظهرها ، كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون : و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا / و لكن على أقدامنا تقطر الدما

ثم داس ال .. لا أدري والله بما أصفه ؟ إن قلت المجرم فمن المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلما ليتوثق من موتها. ربما كان في المجرم ذرة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في الدماء الطاهرة التي أراقها . ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها ، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته ، قطع الله يديه و رجليه

لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة ، قلت : أين عصام ؟ قالت : خبروه بأن المجرمين يريدون اغتياله و أبعدوه عن البيت ، قلت : فكيف تبقين وحدك ؟ قالت : بابا لا تشغل بالك بي أنا بخير ، ثق والله يا بابا أنا بخير . إن الباب لا يفتح إلا إن فتحته أنا . ولا أفتح إلا إن عرفت من الطارق وسمعت صوته .. إلخ

الشجى يبعث الشجى ، و يقول الطنطاوي رحمة الله عليه : إني لأتصور الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة ، ويوما يوما ، تمر أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني . لقد ذكرت مولدها وكانت ثانية بناتي . ولقد كنت أتمنى أن يكون بكري ذكرا ، وقد أعددت له أحلى الأسماء ، ما خطر على بالي أن تكون أنثى

و لما صار عمرها أربع سنوات و نصف السنة أصرت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها فسعيت أن تقبل من غير أن تسجل رسميا . فلما كان وقت الامتحان و قد كتبت لها ظاهريا لتسر بها و لم تسجل عليها

قلت : هيه ؟ ماذا حدث ؟ فقفزت مبتهجة مسرورة ، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات ، المتلاحقة الألفاظ : بابا كلها أصفار أصفار أصفار . تحسب الأصفار هي خير ما ينال

و ماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارا أم كانت عشرات ، والدرجة الكاملة عندنا عشرة ؟ وماذا ينفع المسافر الذي ودع بيته إلى غير عودة ، و خلف متاعه و أثاثه ، ماذا ينفعه طراز فرش البيت و لونه و شكله ؟

ذكريات علي الطنطاوي 6 / 126

عندما رأيت أبا سنان ( محمد زهير الخطيب ) لأول مرة في دمشق سنة 1980 م ، كان يفيض شبابا و فتوة و اسوداد شعر ، لم يكن عنده أولاد و أحفاد سوى ابنته بيان ، ولم يكن مشرفا على مجموعة (يا بلدي!) الشجى يبعث الشجى ، و سيجعل الله بعد عسر يسرا.

                

    * عضو رابطة أدباء الشام