حتى أنت يا أردوغان

د.فاطمة محمد العمر

د.فاطمة محمد العمر

[email protected]

حماة الهادئة الوديعة ..

حماة الناعمة الرقيقة ..

حماة الغافية على ضفاف العاصي ببراءة طفلة صغيرة .. وفرحة عروس ليلة زفافها ..

حماة الماضي .. والحاضر .. والمستقبل ..

تعود بي الذاكرة إلى عام مضى .. إلى الصيف الماضي .. كنا قد أمضينا بضعة أيام نتجول في مدن الشاطئ السوري .. وفي طريق العودة شيء ما شدني إلى المرور على حماة .. الطريق الدولي العائد إلى حلب لا يمر بقلب المدينة وأحيائها .. ومع ذلك فقد شعرت بدافع قوي يأخذني إلى داخل المدينة .. أردت أن أجول في شوارعها وأتطلع في مبانيها وناسها .. لم أسأل نفسي عن السبب .. استجبت لذاك الداعي دون أن أحاول فلسفته أو تحليله ..

جالت بي السيارة في حماة .. مررت بنواعيرها الشامخة عزة وكرامة .. أصغيت إلى خرير الماء  المنبعث من دورانها يهمس بالانطلاق والحرية .. شممت رائحة التوق إلى حياة جديدة تغسل عن النفوس أدرانها وتجلو عن الأرواح أحزانها ..

وانسكبت حماة داخل النفس .. بكل ما تحمله من ذكريات مريرة لدى كل سوري حر .. السيارة تدور وتدور في الأحياء العتيقة وتمر بالشوارع الجديدة وتتشعَّب داخل الروح الكثير من الآهات .. آهات مكتومة تستدرُّ آلاماً قديمة ..

لم أكن أتخيل حتى في الأحلام أن حماة ستعود إلى واجهة الأحداث بقوة .. كنت قد انكفأت إلى نفسي وسئمت من حلم الحرية الذي لم يتحقق .. وفجأة .. انتفض شيء من تحت الرماد .. انتفض الشعب الذي ظن الجميع أنه انتهى .. الشعب العربي ما زال حيّاً .. وما زال عصيّاً على التدجين .. وقفت أرقب ثورة تونس بانبهار .. وأعقبتها مصر التي تسارعت خطاها نحو التحرير .. ثم حان دور اليمن .. وقبل أن نصحو سارعت ليبيا!! نعم ليبيا سارعت لتسجل دوراً على دروب التحرير ..  وكنت أُسأل أحياناً من بعض الزملاء والزميلات: ها وأنتم .. شو الأخبار عندكم في سورية ؟!! .. فكنت أُجيب دائماً بضحكة يشوبها الكثير من المرارة والألم: لا .. نحن في سورية مؤدبون.

تناقل الجميع أخبار الدعوة إلى مظاهرات يوم 5/2 في ذكرى مجزرة حماة أيام الثمانينات .. مع ذلك لم أستطع أن أتخيل أن ذلك يمكن له أن يحدث .. ولم يحدث .. وقلت لنفسي: أرأيت يا حمقاء ؟!! لا تتعلقي بأوهام لن تحدث .. هو ذاك فأنا أنتمي إلى جيل (هرمنا) .. الجيل الذي لم يعد يصدق أن الدماء ما تزال تسري في العروق.

ولكن الشباب الذي أرضعناه الخوف وغذَّيناه الخناعة أثبت أنه عصيٌّ على التركيع .. الشباب الذي ربيناه ونحن نشير له إلى الجدران ثم نضع السبابة على الشفتين ليتعلَّم الصمت والسكوت قلب المنضدة علينا وهتف عالياً للحرية .. الشباب الذي علَّمناه أن كامل حقوقه تكمن في قوله نعم لمن يقتله ببرود مزَّق قيوده ليكتب بدمائه لا للذل ولا للهوان.

وانتفضت سورية .. سورية المغموسة بالدم والمرسومة بالجراح .. سورية المحوطة بالخوف والمطوقة بالهوان .. سورية التي تنام على الجوع وتصحو على الظمأ .. وبالرغم من ملايين اليمنيين الموجودين في الشوارع وعشرات الآلاف من الليبيين الذين تقصفهم كتائب القذافي يوميّاً .. وبالرغم من التعتيم الإعلامي المقصود فقد تمكَّنت سورية من خطف الأضواء وتوجيه الأنظار إليها ليس بالأعداد الكبيرة التي تنزل إلى التظاهر فهي ليست كبيرة، ولا ببعض من يموت برصاص الغدر .. ولكن بالنكهة المتميِّزة لثورتها نكهة الحرية .. وبإصرارها العجيب على تحقيق مطلبها السامي: الحرية ..

بدأت الأغنية هناك في الجنوب .. ولكن نغماتها العذبة سرعان ما انتشرت في أرجاء سورية .. وغزت كل قلب .. وصارت على كل لسان .. ووصلت إلى حماة التي تلقَّفت النغمات لتعيد صياغتها وتوزيعها بما يتناسب مع الإرث الهائل الذي تختزنه هذه المدينة الشهيدة ..

وبدأت أصوات المجتمع الدولي تتهامس هنا وهناك على استحياء .. وكأن هؤلاء الذين يُبادون يوميّاً لا ينتمون إلى جنس البشر .. ورنَّ صوت الجارة تركية يذكِّر ويحذِّر .. واستمرت آلة القتل تدور .. يوماً بعد يوم .. وساعة تلو أخرى .. ولحظة إثر لحظة .. ما ملَّ الشباب ولا كلُّوا .. وعلى العكس من كل التوقعات ازدادت حركتهم زخماً واكتسبت قوة وخطت نحو تنظيم وترتيب .. والقتل لا يتوقَّف .. وسورية كلها تغلي على صفيحٍ ساخن كما تصفها قناة الحوار.

الجميع يترقَّب .. وجاءت جمعة جديدة .. تحمل رسالة واضحة تتلخَّص في كلمة واحدة: ارحل وهذه الكلمة في الوصف النحوي - كما وصفها أحد ظرفاء المصريين - فعل أمر تعني غادر أو اذهب أو امشِ أو أي كلمة أخرى تعني أن الناس ملَّت وجودك ولم تعد تطيقه وما عاد ممكناً طرح أي حلٍّ بديل .. وتفجَّرت حماة عن بكرة أبيها .. أذهلت العالم بهذه الطاقات الشابة التي تحدَّت الموت بالصدور العارية .. وبدأ النظام اللاشرعي يعد لحماة العدة لاجتياحها وإعادة مآسيها القديمة ..

أتنقَّل بين الفضائيات .. أتسمَّع التقارير والتحاليل واللقاءات .. أرهف السمع وأحدُّ البصر .. فلا أجد في الأفق إلا فراغاً .. أين الصوت الذي علا وحذَّر من إعادة حماة الثمانينات ؟!! هل كان الأمر مجرَّد زوبعة انتخابية انتهت بعد أن استقرَّ الكرسي ؟!!!.

حتى أنت يا بروتس ؟!! قالها يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير الشهيرة .. قالها حين رأى خنجر الغدر بيد أقرب الناس إليه ومن لم يتخيل أبداً أنه من الممكن أن يغدر به .. قالها بكل مرارة وذهول ثم استسلم لقدره .. إذ لم تعد الحياة تعني له شيئاً .. فما فائدة الحياة وتوأم روحك يغدر بك ويسلمك إلى أعدائك المتربصين بك ؟!!.

أرجو أن تنتهي الأمور ببلدي الحبيب سورية .. وحماة خصوصاً على خير يحفظ للناس أرواحهم وأعراضهم وأموالهم .. والأهم من كل ذلك حرياتهم التي ضحوا بالغالي والنفيس لينالوها .. وأخشى ما أخشاه أن ينتهي بنا الأمر بطريقة مسرحية شكسبيرية.