أنياب الآبقين
خضر محمد أبو جحجوح
مخيم النصيرات/ غزة
عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
عضو رابطة أدباء الشام
هل جربت يوما أن تقع أشلاؤك بين أنياب ثلة من البشر تتناوشهاوتلوكها، وأنت لا تدري سببا لثوران تلك الغريزة البهيمية في أنفسهم التي سوَّلَت لهم ذبحك وتقطيع أوصالك، وبعضهم لا يكاد يعرف منك إلا وجهك، وفي أحسن الأحوال لا يعرف منك إلا اسمك، إذ لم يخبروك في عمل أو سفر أو مصلحة،على القاعدة العمرية في معرفة الرجال، ولا تقاطعت مصالحك مع مصالحهم، ولا همومك أنجزت بهمومها فساد همومهم وعكَّرت صفو أمزجتهم، بل إن منهم من ليتحرك بالتوجيه الآلي لا لشيء إلا لأنهم ضعفاء لا يقدرون إلا على أن يدوروا في فلك محركهم، ومن يوحي لهم بأنك قد تشكل خطرا عليهم، وعلى مصالحهم وذواتهم الضعيفة،ومقومات وجودهم،فظلموا أنفسهم ولو أنهم أنصفوها لحاسبوها وجبروا عيوبها ونواقصها التي لا تغطى بغربال لأنها واضحة، مكشوفة لا تخفى على ذوي البصائر والألباب الذين ستروها عليهم، وأنت واحد من أصحاب الفطنة سترت عليهم عيوبهم فلم تفضحها، لأنك إناء مسكٍ.
لا تستغرب إن جربت ذلك ولا تأخذنّك الظنونُ إلى دوامة التخمين، ولا تشك قيد شعرة أن فيك ما يزعمون، فأنت نقي صاف لم تقع فيما وقعوا فيه، فاعلم يا عزيزي أن منهم اللص الذي يتهمك بأنك مغرور متكبر، وهو محكوم عليه في قضايا مخلة أقلها السرقة، نعم والله إنه لسارق أفَّاكٌ في ميدانه، كاد الزمانُ يفضحه لولا أن تداعى الأنقياء لستر عورته، فلم يحفظ لهم وداد لحظة، وسعى لينشبَ في عيونهم مخالبه يوم تناسى الزمانُ والساترون فضائحَه ولم ينسها، وما تناسوها إلا لينالوا عِطرَ من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة، وأجرها العابق، ومنهم المهزوزة نفسه، الضعيفة شخصيته الذي لا يحسن أداء واجبه، مع كثرة نواقصه التي تصل إلى حد الإسفاف إلا بسكوتهم عنه ليظل دائرا في فلكِ الرضى، وهو لا يجد لك نقيصة إلا أن يشهر سيف لسانه لتمزيقك، ومنهم المزوِّرُ الذي يلقاك فتنخلع نياطه وينكمش وجهه كأنّ بردَ يقينك ثلج سال على وهج سخيمته، ونار ضغينته؛ فانكمشت، وازورت من هول المفاجأة، فبات وجهه مكفهرا، ولونه مصفرا، وشاهد الزور الذي رآى فضلك بعينيه، ولمس برد لطفك بيديه، ومسَّ جبينَه رَوْحُ سماحتك، فما قال فيك إلا زورا يعكس ما في قلبه من الخسّة التي تغلف قلب شاهد الزور، والمخادع الذي لا يقوى على أن يفتح عينيه في عينيك، إلا كباسط كفيه إلى السراب، والكاذب الذي يخدعك ببريق الكلمات وخنجره في خاصرتك وسكينه تقطع منك الوريد، والآبقالمتمرس في فن الانكفاء كلما أجن الليل وادلهم الخطب، الذي لا يحلو له إلا أن يسميك زنديقا في حضرة أمثاله، أما في حضرة الصادقين الثابتين فيلبس ثياب الواعظين، ويسب الآبقين والمارقين والمنكفئين وهو يعرف تماما أنك لست منهم، فللصادقين -إن لم يحصنوا أنفسهم بالنظرات الثاقبة- مداخل لوسوسة الآبقين، يدخلون منها إليهم ليقطعوا أوصالك بعد مدائح في ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب، مدائح يكيلونها مشفوعة بآهةِ مرارة، وتنهيدة أسى تركب موجة (لكن) عافانا الله وإياك يا عزيزي مما بعد (لكن) التي يمتطيها شياطين الإنس ليذبحوك.
لا تعجب يا عزيزي إن جربت ذلك يوما من هؤلاء وأولئك؛فلقد باعوا عقولهم، فاستعبدهم غيرهم، يوم باعوا أنفسهم للشهوات، فاستعبدتهم أهواؤهم، ورضوا بحياة الدوران في فلك الآخرين، فلا هم كانوا كما يريد الخلق والفضيلة لأمثالهم أن يكونوا، ولا استطاعوا أن يكونوا كما يريدون هم أن يكونوا ويتمنوا، فداروا، ولما داروا زاغت قلوبهم، واستدارت عقاربها فينزوعها نحو شمال الهوى، وشاطئ الضغينة، فانغلقت عيونهم عن الحق، وطمست بصائرهم فما عادوا يرون بها إلا من خرم الأهواء التي فتحها لهم من يدورون في فلكه، فما هم إلا سجناء أوهامهم، ينظرون بأفق ضيق ملؤه الكبر والحسد والضغينة، فامض ولا تلتفت فإنك على الحق الباقي وهم زبد جفاء.