شجرة الخرّوب

محمد عميرة

قالت  لي جدتي فاطمة - رحمها الله – إنها غرستها ... وسألت أبي وعمي فقالا : كان ذاك عام 1933 . كانت أكبر الشّجرات في القرية ، وأجمل الشجرات . وكانت أغصانها تتدّلى على طريق المارّة ... ومنذ نعومة أظفاري ، وأنا أراها كبيرة ضخمة ... دائمة الخضرة ... منذ الصف الأول الإبتدائي عام 1967 وقبله ... تغيرنا وما تغيرت وسافرنا وما سافرت... وكانت أوراقها التي عليها كأنها جمهور مصطف ينظر الينا من عل  حيث كان مسرح الحدث (الحوش) - ساحة أمام البيت يتابع الحدث ... حدث الموت والحياة والترح والفرح ...

وكانت باهتزاز أوراقها من مداعبة الريح كأنها ترقص فرحا للحدث ... وبتمايل أوراقها بتحرش الريح كأنها تندب حزنا للحدث ... وبسكون أوراقها بسكون الريح كأنما تصفن تفكرا – في مرحلة الهدنة هذه بين الحدثين – في الحدثين ...

مضى عليها من السنين منذ غرست إثنان وخمسون عاما ، ثم شهدتُ من أحداثها حوالي سبعة عشر عاما حيث رحلت شجرتنا عن الدنيا عام 1985 حينما أطلق سراحأبي مع طيور الحرية ؛ ليثبت مكانها فجذورنا ممتدة في الأرض كجذور أشجارنا ...

أحداث أفراح الصبا والتي لن تعود كانت تحتها وفوقها وحولها ... وأول ما أذكر أنني وأشقائي وأترابي كنا نربط بها الأرجوحة للعب وكانت أغصانها متدلية على جوانبها بشكل قبة كبيرة نصعد من أغصانها الى أعلاها ، وننزل من أعلاها ملامسين ساقها الضخمة ... وكنت حين أصعد أشعر بشيء من الخوف ...كما أنني لن أنسى أبدا انها كانت فندقا ضخما سبع نجوم للطيور ومجانا بلا أجور، واحيانا للقطط ...

هذه الشجرة شهدت حدثا بعد حدث وهزيمة بعد هزيمة وانتظارا بعد انتظار عسى أن يلوح في الأفق بشير الشّفق ... شهدت الكثير هذه الشجرة ، فليتني احتفظت بأوراقها ؛ لأقرأ تفاصيل الحدث منذ غرسها...

وفي عام 1969 حين سجن أبي وحتى خروجه كنا ننمو، ونفرح، ونحزن ، وندرس ، وننجح ، ثم تزوجنا . هذه فترة الستة عشر عاما سميتها فترة شجرة الخروب وهي فترة تشبه الخروج من بئر دونما سلم وبفضل الله خرجنا . وتتوسّط مرحلة طويلة قبلها أكثر هدوءا  ومرحلة طويلة بعدها أعقد واكثر أحداثا .

وحينما بدأنا بالبناء اضطررنا لقلعها من جذورها، ونحن محزونون ، ولكن لنغرس جذورنا . كان يوما حافلا وشاقا ، وكانت جذورها ضخمة ممتدة لمسافات طويلة امتداد السّنين التي شهدنا أحداثها وأحزانها وأفراحها الممزوجة دوما بشيء من الحسرة ... كما الهيل في القهوة ...

ترحل الأشجار ومن يغرسها وتبقى الذ كرى ... والذ كرى شكل من أشكال اللقاء  .