إذَا البَينُ أَنْسَانِي أَلَحَّ بِيَ الهَجْرُ
في صَدْرِ أيَّامي كنتُ أَسْتَأْنِسُ بأحدِ معارفي على قراءة وتبادل بعض الرِّوايات العربية – منها المترجمة ومنها غير ذلك –كنت أجد فيها راحتي وغايتي ، ذلك أنَّ اليَبَابَ الَّذي كنت أعيشُهُ كان يفرضُ هذا النَّوع من الاشتغال فَرْضًا ، كان يُخيَّلُ إليَّ دائما أنِّي متميزٌ على غيري إذا صرفت همتي تُجاه هذا العمل – كان في ما مضى فلا تؤاخذني على أحلام صبيان – ثمَّ إنَّني وصاحبي قد خطونا تحت ظلِّ هذا اللَّقْمِ أيَّامًا وليالٍ خُطُواتٍ لا يُسْتَهانُ بها ، نتبادلُ كلَّ جَديد ، و يبادرُ كلُّ أحَدٍ منّا بوصْفِ ما رآه في ليلهِ مع رواية فلان ، ويُحَدِّثُ بكلِّ فَرَحٍ عنِ انْطِباعِه كَأنَّه الوَلْهَان ، على الحبيب بَعْدَ طولِ بَيْنٍ وهُجْرَان .
لبثنا برهة من الدَّهر على هذا النهج نسير ، ومن المؤسف حقًّا أن أقول هذا ، لكنَّ للأقدار مَنَاصِلَ تَنْحَرُ الأخيار ، لقد لعِبَتْ بنا أمواجُ الصُّرُوفِ أيَّاما طِوالاً نتخبط بين لججِهَا ، نرتاع عُمْيًا في ظلمات الفيافي والفَدَافِد، بينَ كُلامِ الأرض والحيَّاتِ والأوَابِد ، ننتظر بصيصَ أمَلٍ يخلصنا مما نحنُ فيه فلا نكادُ نجدُه بين هذا الفساد الموغِلِ ، ثمَّ ننتظر كرَّةً أخرى على مَضَضٍ عَلَّنَا نقطعُ عَرْضَ هذا الهولِ ولَسْنَا بقاطعيه حتَّى تفارقنا على ذلك العهد ، عَهْدِ الأيَّام المُورِقَة النَّاضِرَةِ الأفْنَان .
فَتَتَارَكْنَا على غَيْرِ شَيْءٍ ------ ربَّما أفسدَ طُولُ التًّمَادي
تَصَرَّمَتْ سنواتٌ على هذه الحال ، وتَجرَّمَتْ مع هذه الأيَّام سَوَانِحُ الماضي ، وصارَ ما كان بيني و بين خِلِّي كحالِ رُسُومٍ عَوَافِي ونحنُ فيها حَليسَا أشلاءٍ تُمَزِّقُها السَّوافي ، ثم انقضى الأمر بِرِمَّتِه إلى الفَنَاءِ والاضْمِحْلالِ، و شَرَّقْتُ حينها بِفِكَرِي إلى صنعاء ، و غرَّب بِفِكَرِهِ إلى مُرَّاكِشَ .
انقضتْ جُمْلَةٌ صالحة من عُمُرِي و أنا تائهٌ بين الدَّهَالِيزِ الغامضةِ إلى شيءٍ اسمهُ لا أدْرِي ، ولكنَّ اللهَ سَلَّم ، إذْ قَذَفَ بنفسي باعِثًا يَبْعَثُ الميْتَ مِنْ رَمْسِه ، يبْعَثُ ذلكَ الحنينَ القديمَ مِنْ لَحْدِه الَّذي أُقْبِرَ فيه ، فعادَ الحنينُ شوقًا أكابِدُهُ ، مُبَرِّحًا بي لا أستطيع له دَفْعًا ، ولا أقدر له رَدًّا.
وجاشَتْ جُنُودُ الصَّبْرِ والبينِ والأَسَى ------ عَليّ فكانَ الصَّبْرُ أضْعَفَهَا جُنْدَا
عدتُ إلى المِضْمَارِ مَرَّةً أخْرَى أُرَاهِنُ بِدَاحسَ خَيْر مُرَاهَنَةٍ ، فمَا لَبِثْتُ حَتَّى أحْكَمتُ ما مَضَى فكأنْ لم يَتَفَلَّتْ قَطُّ ، ثم نهضتُ بِعَزْمٍ مُرْهَفٍ شَدِيدٍ ، عَلى نبأٍ جَدِيدٍ ، لم أسمعْ عنه أمْرا ، ولم أُحِطْ به خُبْرا ، فعجَّلْتُ أبْغِي خَبَرَهُ فإذا هُو نَبَأُ " شكسبير و فيكتور هيقو" ، بل ونبأ "ديوستيوفيسكي"َ و غيرهم من أعلام هذا الشَّأْن ، وكانَ ذلك عندي كبِشَارَةِ يوسف إلى يعقوب عليهما أفضل الصلاة والتسليم.
أيها القاري – رحمك الله - معي برهة :
ذاهبٌ بك من زَمَنٍ ذلك خَبَرُهُ إلى زمن أنا الان بين قيوده أُعَاني ، هذا زماني قد اجتمعت فيه كلّ أحزاني ، غاب الأنيس وغاب كلُّ مُعِين ، في حَنَادِسِ الظُّلَمِ أمشي مَكتوف اليَدَيْنِ ، أرى الماضي طُلُولاً مُنِعْتُ من الوُقُوف عليها ، ناشَدتُّهم أنْ أَنْشُدَ عَليها ولكنْ أبوْا عليَّ إلاَّ العيشَ تحت وَطْأة الضَّيم ، خائفًا أتَرقَّبُ ، ساكِتا أرْقُبُ بعيني ، أرى البلايا تَقْصِم الظهور ، والأدباء في أثوابِ الخِزْي والقُصُور ، سلعهم تَدور ثم تَبُور ، أشكوا إلى الله بثي يومَ أرى الثِّقَةَ عاجِزا ، والعلمَ ناشزا ، والأدبَ تارِزا ، والشَّرَّ بارِزا ، وصَاحِبَنَا مُشارِزا.
هَمِّي قد أخفيته في جَوْفِ سُطُورٍ أراك نَاظِرًا إليها ، واحْتَلْتُ على إخْفَائِهِ بِمَكْرٍ ومَكِيدَة ، فَكُنْ مِمَّن يتسَلَّلُ إلى الضمائر ليكشف السَّرائر، واجعل عفوك مُقَدَّمًا على خَطَئي فإنَّما هي أعمالٌ بِنِيَّتها ، خذ ما صفَا و احتملْ بالعَفو ما كَدَرا ، و آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.