جزيء ماء
جزيء ماء H2O
أسامة أديب
جزيء ماء، تشكل في رحم الأرض، وترعرع في أكنافها، حتى إذا شب ونما.. ارتقى في سلم العلياء والمجد، فظهر إلى السطح يشع الحب والحنان الذي كان ينعم به في كبد الأرض.
وما لبث صاحبنا أن رأى الحياة وتأمل الدنيا حتى أتاه تيار جارف لا يُبقي ولا يَذر، فاجتذبه وقاده حتف أنفه، ليسوقه في خضم الأنهار والبحيرات، مروراً بالساقية والجعفر، إلى الشلال والجدول، يُرِيَهُ الخير والشر، والخطأ والصواب، يربيه ويعلمه ويهيئه لمستقبل قاسٍ وحياة مليئة بالمستجدات والمتغيرات؛ فسبحان من أودع الحب والعطف والحنان بين الكائنات.
ولما استقر المقامُ بصاحبنا وسْط البحر، أحس بمشقة الطريق وقلة الزاد وهول المخاطر التي تلفه، فتذكر دفئ المحبة التي تلقاها من قلب الأرض وحسن الإرشاد الذي رباه عليه النهر فهدأ واطمأن، ثم واساه قول الله عز وجل (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا).
راح صاحبنا يجوب البحار يَمنة ويَسرة، يدرس ويتعلم، يَسْبِرُ أغوارَ العلمِ بمنارات الإيمان، وينهل من معينها الصافي الزُّلال، ينعم بظلال آياتٍ من سورة النحل: "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" فحَمِد اللهَ على نعمائِهِ العظيمة وآلائه الجسيمة.
فجأة.. اشتد الموج وعظم الخطب واحمرت الحدق... وتكشف البحر عن أمواج عالية وتصادمات شديدة عاتية، فإذا بصاحبنا (جزئ الماء) يكتسب طاقة هائلة أمكنته الفكاك من القيود، والانطلاق في الوجود، فمضى صاحبنا إلى عنان السماء، حيث الفكر الصافي، والآفاق النيرة، والرؤى المشرئبة إلى نصرة الحق والعدول عن الظلم، فساح وراح، وتجول في رحاب الله، يرى الأمور من علٍ؛ يقدر الأحداث بقدرها، ويُنزل الناس منازلهم، يعرف للضعيف حقه، وللكبير وللعالم قدره، وللمسكين حاجته،.. فمضى في سيره بأمان وسلام، وحب وحنان، وود ووئام، يدعو إخوانه من جزيئات الماء الأخرى إلى عبادة الله وحده.. وتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض، والعزم على نشر الخير بين للناس، وإفشاء المحبة والإخاء، والصفاء والنقاء، فالتف حوله جمع كثير من الجزيئات التي آمنت بالفكرة، وتجمعت لتَكُونَ قطرة، وكانت لغيرهم من الجزئيات عِبْرَة، فتشكلت آلاف القطرات الخيِّرة (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
ولما شاء الله للقطرات المسير، وسهل لهم الطريق، نزلوا إلى الواقع العملي، فمنهم من كان في شربة ماء لكَ أخي القارئ، أو لكِ أختي القارئة، أو لنا أو لهم... ولكن صاحبنا (جزيء الماء) كان ذو همة فأبى أن يرضى دون القمة، فقرر أن ينزل في قطرة ماء -مع أقرانه- ليسقي بذرة زُرِعت منذ زمن، ودار الزمان عليها دورته، فنمت البذرة في تربة الإخلاص، وامتشقت عبير الصباح، وتلألأت بشعاع الشمس الصداح، حتى صارت شجرة عطرت المكان بعطرها الفواح، احتضنت الطيور الملاح، وقررت أن تسعى للفلاح.
رُحت أبحث عن جوهر مكنونها، في عمق جذورها، علّي أهتدي لمعرفتها، أو أعثر عمّن يهديني إليها، فإذا بها شجرة ذات أفنان، وارفة الظلال، أظلتنا هنا في هذا الموقع اللطيف.. نعم إنها شجرة أدباء الشام. عفوًا هل رأيتموها؟ ابحثوا جيدا عنها، أين هي؟.. نعم أحسنتم إنها في قلبِ كلِّ واحدٍ منا، ضعوا أيديكم على قلوبهم، وتحسسوا عمق جذورها.. شنفوا آذانكم بألحان أوراقها.. تأملوا أغصانها الدانية.. تذوقوا ثمارها اليانعة.. لا بد أنكم شعرتم بصدق المحبة، وأُنْسٍ اللقاء، وحفاوة التكريم.
إذن استظلوا بظلالها، وانعموا بالجلوس إليها، واسقوها من بنان أفكاركم، وسمّدوها بأعذب كلماتكم، وقلّموها مما يشوبها، ولا تنسوا أن ترفعوا أكف الضراعة إلى الله أن يوفق أسرة الموقع التي احتضن هذه الشجرة، وثابرت على رعايتها.
ومعًا يدًا بيد لخدمة الأمة، والوصول إلى الجنة مثل صاحبنا جزيء الماء.