حمار الشيخ

جميل السلحوت

[email protected]

الأرض

وبينما أنا في طريقة لحراثة الأرض - رغم قلة المطر في هذا الموسم - لفت انتباهي شاب وسيم أهيف يتوسل باستحياء لشخصية مهمة تترأس احدى المؤسسات أن يستعجل المسؤولين كي يدفعوا له راتبه الشهري الذي مضى عليه ثلاثة أشهر دون أن يستلم منه مليماً واحداً ، فوعده المسؤول خيراً ،غير أن ذلك الشاب قال هذه المرة المئة التي تعدني فيها دون تنفيذ ـ وانصرف المسؤول في سيارته، وبقي الشاب في السيارة يداري خيبته .

فاقتربت منه وتعرفت عليه فإذا به قد أنهى تعليمه الجامعي، ويعمل براتب قدره ألف شاقل – حوالي مائتين وخمسين دولارا -     فعجبت كيف سيعيش هذا من هكذا دخل وكيف سيبني بيتاً ؟؟ وهل سيستطيع الزواج أم لا ؟

فسألته ان كان يملك أرضاً ؟ فالتفت إلي مستنكراً وكأنني هربت به عن الموضوع الذي يشغله ، وهو متى سيقبض راتبه ؟ غير أنني واصلت الحديث معه قائلاً : اشترِ حماراً مثل عمك الشيخ ،واعمل في الأرض كما كان يفعل آباؤك وأجدادك ، وستضمن دخلاً كريماً تعيش منه ، وستذوق طعم الخضراوات والفاكهة الطازجة اللذيذة وغير المشوهة من خلال حقنها بالبروتينات ، وبهذا ستكسب صحتك وعافيتك، وستبني بيتاً وستتزوج وستنفق على ابنائك .

فاستنكر الشاب ما قلته له وقال لي : اسمع أنا أنهيت دراستي الجامعية ولست اُمياً مثلك .

فسألته : وماذا أخطأت بحقك ؟

فأجاب : يجب أن أستلم وظيفة في السلطة الوطنية فأنا متعلم وأفنيت عمري في النضال .

فسألته عن عمره ، فقال : اثنان وعشرون عاماً !!
فابتسمت عندما سمعت ذلك، واستحييت أن اُخبره بأنني كنت سجيناً أمنياً قبل أن تلده أمه ، وأضفت لكن الحفاظ على الأرض هو قمة النضال ، وشعبنا جميعه مناضل وغالبيته متعلمون، واذا كانت السلطة ملزمة بإيجاد وظائف لكل المناضلين فإننا سنحتاج الى استيراد شعب آخر كي يقوم بالأعمال الأخرى ، فنهق حماري وولى الأدبار هارباً عندما سمع ذلك.

القرش الأبيض لليوم الأسود

يبدو أن العام ( التعيس ) بأربعة وعشرين قيراطاً أي يكون كامل التعاسة لا يترك للفرح مكاناً ، فعام القحط هذا يحرضني على بيع حماري مع حاجتي الماسة اليه ، فالحبوب التي بذرتها في الأرض لم تنبت لقلة الأمطار، وكذلك الأعشاب وغيرها وكأن الأرض أصبحت عاقراً ، لكن حالي أفضل من حال الآخرين بكثير فانا من المؤمنين بمقولة ( ان من يرى مصائب الآخرين تهون عليه مصيبته ) مع أن حالي لا يختلف عن حال ذلك ( التعيس ) الذي كان يسكن خيمة من شعر الماعز بناها في طرف احدى المدن ، وكانت السنة كثيرة الأمطار والثلوج، ولما اخذ البرد منه مأخذاً قال لزوجته وأبنائه ( كان الله في عون سكان المدن كيف يتحملون هذا البرد في بيوتهم الحجرية ) وسبب تعزيتي لنفسي وطمأنينتي هو أنني اُخزن الحبوب وغيرها من سنوات الخصب السابقة، فلن أحتاج الى مؤونة اسرتي من خبز القمح الشهي الذي تخبزه أم العيال على الصاج أو الطابون مما يجعله أشهى من الخبز الذي يتناوله الملوك والزعماء ، عدا عن العدس واللبن الجميد والملوخية والبامية المجففة والزيت والزيتون، اضافة الى مؤونة الحمار من التبن والشعير، وهي التي حرضتني على التمسك به وعدم بيعه ، أما مربو الأغنام الذين وقعوا في فخ القحط والجفاف فحالتهم تدعو الى الرثاء، حيث أن القحط يهدد مصدر رزقهم الوحيد كما أنه يهدد جزءاً هاماً من الاقتصاد الوطني وهو الثروة الحيوانية ، فمربو الأغنام سيتخلصون من نسبة عالية من أغنامهم كي يستطيعوا اطعام باقي أغنامهم ، فهل تقوم وزارعة الزراعة بتعداد المواشي، وتقديم المساعدات لأصحابها حفاظاً على هذا القطاع الاقتصادي الهام خصوصاً وان أغلبية المراعي تقع تحت سيطرة المحتلين، أم أننا سنترك ثروتنا الحيوانية تضيع من بين أيدينا ؟؟

في رقبة الحمار

ومما يلفت الانتباه هذه الايام انتشار الهاتف الخلوي بشكل ملفت للانتباه، فرجل الاعمال والذي بلا عمل يحمل هاتفا خلويا، وحتى ربات البيوت اصبح الهاتف الخلوي ملازما لهن ، وحتى ان البعض ممن لا يملكون شروى نقير ، وبنامون على الحصير ، ولا تجد في بيوتهم خبز الشعير ، لا يسيرون الا والهاتف الخلوي بيمناهم او مسلحين به على خواصرهم ، فدبت الغيرة بزوجتي، فأقلقت راحتي، واقضت مضجعي لانها تريد ان تجعل مني شخصية مهمة عن طريق الهاتف الخلوي ... فاحترت من اين آتي بثمنه، ومن اين أسدد فاتورته الشهرية ؟؟ خصوصا وانني لا املك الا رحمة الله وجهدي وجهد حماري ، فأرغت زوجتي وازبدت وعلا صوتها ، وجحظت عيناها ،وابدت استعدادها بان توفر من طعام العيال على قلته ، وبحسبة بسيطة لا تحتاج الى تفكير او عقل وتدبير ،وجدت اننا بحاجة الى صيام شهرين متتاليين دون ان نأكل السحور او الافطار ، ودون دفع فاتورة المياه والكهرباء حتى نستطيع شراء هاتف خلوي ... فرأت زوجتي في هذا الاقتراح خطوة زائدة نكون فيها قدوة للآخرين بان نذيب ما علق بأجسامنا من شحوم نتيجة البطالة وقلة الرياضة، فوافقت على طرحها خوفا من المشاكل وتهديد أمننا الاسري ... وأفتيت في ذلك ان الكذب على النساء حلال لصغر عقولهن وكثرة ثرثرتهن ... فدار في خلدي بيني وبين نفسي كيفية حمل الهاتف اذا ما اشتريته كي يراه الآخرون فيموتون بحسرتهم وغيظهم ... فهداني عقلي ان اعلقه برقبة حماري ، فضحكت من هذه الفكرة ظنا مني بان يتوه البعض فيظنه لحماري وليس لي ... !! لكنني استحسنت الفكرة لأنني سأجد من يقول بان لحمار الشيخ هاتفا خلويا .. الا ان حماري رفض ذلك لانه يرفض ان يتشبه ببني الانسان، ويتخلى عن حمرنته برنة هاتف او بمظهر سخيف .

حرام على بلابله الدوح

ركبتُ حماري ويممت بيت صهري للسلام على كوثر حسين جوهر شقيقة زوجتي التي عادت بصحبة طفلها الأصغر ابن العام الواحد من عمان ، فصدت عصفورين بحجر واحد حيث وجدتها تستعد للعودة الى زوجها وأطفالها الخمسة الآخرين الذي لا يُسمح لهم بمرافقتها في العودة حسب قوانين الاحتلال الاسرائيلي ،لأنهم أصبحوا بالغين راشدين، ويشكلون خطراً على أمن الدولة العبرية مع أن كبيرهم طفلة في الثانية عشرة من عمرها وأصغرهم في الخامسة وهكذا كسبتُ السلام عليها ووداعها في نفس الوقت .

ولما سافرت كوثر الى عمان بواسطة تصريحات زيارة ،حيث أنها تحمل هوية القدس لأنها ولدت وعاشت في جبل المكبر، كما ولد آباؤها وأجدادها، ولم تغادر الا في آخر العام 1984 عندما تزوجت من أحد أبناء القرية الذين اجبروا على الرحيل من الوطن في حرب حزيران 1967 ولم يتمكن من العودة اليه ثانية ، أعادها مسؤولو الأمن الاسرائيلي عن الجسر لتجديد هويتها من الداخلية الاسرائيلية، فعادت كوثر ودموعها تنساب على وجنتيها شوقاً وحرقة على أطفالها الآخرين الذين كانت تمني النفس بلقائهم ذلك اليوم ، وفي اليوم التالي مباشرة ومع بزوغ الفجر كانت أمام الداخلية الاسرائيلية تأخذ دوراً لها في طابور المصطفين لتجديد هويتها ، ففوجئت بطلب الموظفة منها بأن عليها أن تثبت انها مقيمة في جبل المكبر، ولم تغادره من خلال ابراز ايصالات ضريبة السكن – الأرنونا – وفواتير الماء والكهرباء والهاتف أو عليها أن تتقدم بطلب خطي تعلن فيه تنازلها عن هويتها، وعن حقها في الاقامة في وطنها ومسقط رأسها ورأس آبائها وأجدادها ، وعندها فإن الداخلية الاسرائيلية ستزودها بورقة تسمح لها بعبور الجسر الى الأردن دون عودة .

فوقعت كوثر بين نارين نار حقها في الاقامة بوطنها والعودة اليه متى شاءت ، ونار فراق زوجها وأطفالها، فعادت تبكي حظها العاثر ، وتلعن الاحتلال في سرها وعلانيتها ، وتسأل عن طريق الخلاص من هذه الورطة التي لا مخرج لها ، فطمأنتها بأن مشكلتها بسيطة وستحل بسرعة كوننا نعيش في ظل المسيرة السلمية العظيمة التي ستنهي ويلات الحرب والاحتلال ، خصوصاً وأن حكام اسرائيل من اولمرت الى شارون الى باراك الى نتنياهو الى بيرس الى رابين الى شامير الى بيغن الى جولدا مئير الى اشكول الى بن غوريون الى حلفائهم في واشنطن ولندن والعواصم الاوروبية صمموا آذاننا وهم يتكلمون عن اسرائيل كواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط وعن دفاعها عن حقوق الانسان .

ولما سمع حماري أقوالي شهق ونهق وضرط وقال : من الأفضل لك أن تتكلم عن حقوق الحمير لا عن حقوق الانسان، فربما تصبح مشهوراً كالحيزبون الاوروبية بريجيت باردو التي تدافع عن حقوق الحيوان من كلاب وقطط وتبكي حزناً على الأغنام التي يذبحها المسلمون ( المجرمون الارهابيون ) في عيد الأضحى .

فاستغربت ما قاله حماري وسكت خصوصاً وأن التطهير العرقي لفلسطينيي القدس قد تحول من الطرد المباشر الى الهجرة الطوعية !!

حمرنة

ومن اكتشافاتي التي تثبتها الحقائق على أرض الواقع أن الحمير تعتز بحمرنتها أكثر من بني البشر بانسانيتهم ، أما أنا فإنني أجد أن حمرنة الحمير أكثر أصالة من انسانية البعض ، فالحمير لا تخترق حقوق بني جنسها وتعتبرها من الأمور المسلم بها لأنها فُطرت على ذلك . أما بنوا البشر فإنهم كعالم الحيوان المفترس ، البقاء عندهم للأقوى ، فالقوي من البشر يضع قانونه كما يشاء، ويحدد حقوق الانسان كما يشاء ايضاً . ولذا فإنه يحصد أرواح الآلاف من بني جنسه لاختلاف في الجنس أو اللون أو المعتقد، وهذا ما لا يوجد في جنس الحمير وبعض الأجناس الأخرى في عالم الحيوان . صحيح

أن بعض أنواع الحيوان ومنها الحمير تتخاصم فتترافس بحمرنة أكثر لطفاً من انسانية الانسان، إلا أنها لا تصل الى درجة القتل أو ملاحقة سلالات الحمير كما يفعل البشر .بل ان الحمير وأصنافاً أخرى من عالم الحيوان فيها نخوة أكثر من بعض السلالات البشرية ، تصوروا أنني شاهدت بأم عيني غراباً يقع في شباك بعض الصبية الذين ينصبون شباكهم لبعض أنواع العصافير ، فهاجمتهم أسراب من الغربان وكادت تفتك بهم ، ولم ينقذهم سوى اطلاق سراح الغراب الأسير ، ورأيت مجموعة من الكلاب تهاجم كلباً آخر عندما اعتدى على أحد هذه الكلاب .

أما حماري أجلكم الله ففي احدى نزواته حاول دخول احدى الحظائر ولما حاول الاعتداء على طعام حميرها انهالت عليه رفساً وعضاً، وعلا نهيقها حتى تجمعت عليه، ولم ينقذه سوى قوائمه عندما ولى هارباً .

والعبر المستفادة من عالم الحيوان كثيره لكن البشر الذين يتميزون عن بقية الحيوان بما حباهم الله من عقل متطور لا يتعلمون من الحيوان، فيقعون في سوء تفكيرهم، ولهذا فإن محسوبكم عندما رفع شعار ( وخير جليس في الزمان حمار ) كان مدركاً أن للحمير والكلاب والغربان وغيرها أخلاقيات ومفاهيم تتفوق فيها على بعض الأجناس البشرية !!

فما رأيكم دام فضلكم ؟