الرسالة قبل الأخيرة

د. فاضل الخطيب

[email protected]

تلفني كآبة حارقة.. تزحف في داخلي عتمة الخيبة.. حين أفكر أن أرحل عن عالمك دون أن أترك خلفي حذائي الذهبي الذي يعيدك إليّ.. أو مسمار جحا الذي يعيدني إليك..

التاريخ ... .... ....

الوقت ليلاً

المكان على مقعد في ... ... ....

فتحت حقيبتي.. لم أجد ورقة بيضاء فأخرجت محرمة "كلينيكس" وقلم وبعثرت خواطري تلك فوقها:

 كل مساحات الذاكرة

 وكل الدقائق التي سُجلت

 كل الحالات

 كانت قد انتشرت

 كفرح الأطفال في أحزاني

 لعلها لحظة تلك

 لعلها فكره

 لعلها الشيء الذي يحضرني

 حين أشعر بالخواء

 لا يهم

 كانت حقيقة

 وكان نهار

 نهار واحد فقط

 والجميع سيرحلون مجدداً

 إلى ذاكرتي

 هل هي لحظة نادرة

 أو أنها ككل اللحظات

 يسكنها الحزن

 كل الدقائق انتظار

 كل الأرصفة انتظار

 كل الشهقات وليدة الانتظار

 أيتها الأغنيات

 لا ترحلي

 أفسحي له مساحة

 ليأتي

 وأعدي له البنفسج

 في الأصص الصغيرة

 وأقفلي على حزني

 بكثير من القبلات

 رصيدنا من الوقت قليل

 تسرب من أيامنا الكثير

 لا متسع للوقت

 لا متسع لتحمل الانتظار

 الفترة مساء

 أقبض على ذاكرتي

 أقبض على اللحظة التي أعيش

 هل يكفي كل هذا

 وقوداً لهذا الشتاء

صدفة وأنا أبحث بين أوراقي سقطت هذه الخاطرة في يدي .. واكتشفت أننا لا نستطيع أن نشفى من ذاكرتنا .. وأن الاشتياق إلى أي شخص هو نوع من الإدمان الذي لا يوجد له مصحات للعلاج منه.

وأتساءل لماذا تركت لي صوتك وأشياءك اللطيفة وطيفك ثم رحلت ..

لماذا قاسمتني أحلامي وأحزاني المزمنة ثم رحلت ... لماذا منحتني أيامك وحلمك الأخضر والأمان ثم رحلت ...

لماذا طلبت مني الصبر والانتظار وعدم النسيان ثم رحلت ...

لا أدري ...

كل الذي كنت أدريه أنه كان لي رغبة أن أصرخ حينها: قف أيها الزمن ما أجملك ..

فجاءه الآن .. أبعثر على طاولتي أشياءك التي تركتها لي: ................... وأنا أتساءل بشيء من الذهول ترانا التقينا حقاً .. ولم يكن كل هذا حلم ..

في اتصالك الأخير أدركتُ كم الغربة قادرة على أن تفرش صقيعها في الأعماق وتحول كل شيء إلى جليد .. الحياة .. والحنين ... وخفقت القلب ... وحتى الذاكرة أدركت قساوة السجن داخل عملٍ يحزّم الأجساد من الوريد إلى الوريد ولا يترك نافذة للتنفس حتى يغدو روتينهُ كرصاصةٍ تفتك بكل شيء جميل .. بما في ذلك الحلم ..

عندها فقط سارعت إلى قلمي وأوراقي ... ونكثت بوعدي لنفسي ولكَ في أن أتوقف عن الاتصال بكَ أو الكتابة ...

أحسست أن رسالتي ... ربما تستطيع أن تنقذك من موتك البطيء ..

ربما ستمسح عنك ولو قليلاً من صقيع الغربة .. أو تقيك من شراسة فكها ..

ربما رسالتي ستخفف من احتراق السجائر في صدرك ..

سجائرك التي أخافها ... وأغار منها ..

ربما رسائلي تؤنسك ... ربما تحتاجها ..

وربما هي الأخرى لن تريحها من سجن مغلفها ... وليس لديك المتسع من الوقت في زحمة العمل لقراءتها .. أو إيقاظ أية مشاعر ..

ربما لن يصلني أي رد عليها .. وربما تصلني رسالة وحيدة .. تطلب مني فيها أن أتوقف عن الحياة .. والاشتياق ... وكتابة الرسائل.

 التوقيع

 29 / 11 / .........

من إحدى زوايا الوطن, وهل يسمى السجن وطناً؟ هذا السجن الذي نحاول أن نصنع في إحدى زواياه وطن! هذا الوطن الذي تركنا كل زواياه لتصبح سجناً, "الوطن الذي صار سوقاً ليس وطني", هذه الرسالة كانت أغلى من وطني, وطننا الذي يباع بالمزاد العلني ونحن لا نجرأ على همس مشاعرنا في هذا الرخص العلني!