قبلات آذارية ثلاث
عصام سحمراني
ربيع آخر تبلل صباحه قبلاتٌ على جبين أنثى، اختار لها عبقريٌ ألوانَ الخضرة وريّا الزهور عيدا سرمديا. ربيع دائم يزرع نسائمه فوق وجنات الفصول والأيام، وينساب ندِياً وعطِراً وشهياً وممتعاً ولذيذاً ومسكِراً حتى حدود الحلم في ليالي الغربة.
...أمي
هكذا تكوّنتُ في رحمك على حين هدوء مدافع ورصاص. هكذا رأيتك منذ تفتحت عيناي على الحياة. هكذا ناديتك منذ تلفّظ لساني بكلماته الأولى، وهكذا اغتذيت منك غذائي الأول، ترضعينني وتنظرين نحو السماء علّها وهي تحتضن الطائرات القادمة لقصفنا، تهدي إلينا سلاما وأمنا واستقرار قلب.
وبقيتِ كما انتِ تحتضنيننا جميعا في تلك الغرفة الآمنة من بيتنا. توقظين من ينام ونعدّ معكِ دقائق الغارات وساعاتها. وننسجم مع مناجاتك الله، وندعوه حتى حين يضرب الصاروخ أعلى البيت وندرك أنّه استجاب لمناجاتك ولم ينفجر. تلك ذكريات طفولة مشوبة بالخوف تربص بنا بحديده وناره وأصواته وعويله ولم أجد سواكِ مأمنا. حتى حين أتمرّد وأتحدّى كنت أعود دوماً منكسراً إلى حضنك.
وبقيتِ كما أنتِ تنظرين إلى الأمل وتتحملين الصعاب؛ تلك القائمة منذ الأزل وتلك المفاجئة المفجعة. فآذار ذلك العام لم يحمل إليكِ عيدا ولو أنّ القصف توقف، وعراك الأخوة أعلنت قوات الردع إحدى هدناته قسرا. كنتِ تحملينني بيدي المعرّضة للبتر من مشفى إلى آخر، وتجسّدين قلق الأم وخوفها على أبنائها في كل عصر ومكان.
وانتصرتِ كلّ مرّة على ما واجهكِ، وكنتِ دوما صاحبة قدرة أسطورية خيالية على نزع الألم واعتصار الأحزان. وكنتِ دوما من تبثين الأمل رغم الخوف وكثرة الحروب. وها أنتِ كما أنتِ أمّا لأبنائك ولأحفادِك. ها أنتِ أمّا لهم كيفما غابوا وعادوا، ورحلوا وسافروا، وتزوجوا وأنجبوا.
...أختي
تزوجتِ باكرا وغبتِ عن سنوات طفولتنا أسرع من ركضِك وأنتِ تسابقين صغار الحيّ. لا تذكرين الكثير عن أخيكِ الصغير، لكنني أذكر الكثير الكثير عن تلك الشقيقة الوحيدة المختلفة تماما عن بركان البيت الذكوري.
أنت ربيعية أيضا؛ بميلادكِ وأمومتكِ. وأنت أمّ لا تتخلفين وتختلفين عمّن أنجبتكِ. لكنّني هذه المرّة لم أكن كمرّاتك الثلاث السابقة وأنت تكررين التجربة سنة بعد أخرى. كنتُ معكِ، وكنتِ داخل حجرة الولادة تنتظرين عذابا مختلفا. تجاهدين آلام المخاض ولا يأتي، وتتعبين طيلة عشر ساعات دون جدوى، وتناشدين الله وتطلبين منه الخلاص، وتفكرين بنا جميعا؛ بأبنائك وأمّكِ وزوجكِ واخوانكِ.
كنّا ننتظر خروجك من غرفة العمليات وفي خواطرنا تجول أفكار وآمال وآلام شتّى.
أحسست خوف أمّنا. ورأيت دموع أبينا. وكنتُ صامتا حتى نظرت إليكِ وأنت تنظرين إلى طفلِك وتضعينه في حضنِكِ على تعبِك للمرّة الأولى وتبتسمين وهو لا يدرك شيئا إلاّ الشعور بالأمان. إبتسمتُ وتذكّرتُ تلك الصور القديمة من طفولتي الأولى وفيها ارتباك يديكِ الصغيرتين وأنتِ تحملين تلك الكتلة البيضاء بين يديك، وأسكنُ في ناظريكِ بثقة من ينام في حضن أمه، وأعلم بعد كلّ تلك السنين ماذا تعني هذه الكلمة الخالدة يتناقلها الكبار من بيننا: "الأخت أمّ".
...وحبيبتي
القدر نفسه الذي جعل ميلادك عيدا للأم في أوّل أيام الربيع هو ما حمل في روحِكِ تلك الطاقة الخفية على مواجهة قسوة الحياة. معكِ يرتحل الخوف ويسكن بعيدا عنّا، ولو أنّ القدر يمعن في هزيمتنا كلّ مرة بشكل مختلف عمّا سبق. يلاحقنا القدر بالموت، والدين، والعِرق، والجنسية، والنسب، والطبقة، والفكر، وحشد كبير من الأحاديث والعقائد ومذاهب الأولين. ويتعهدّ التفريق بيننا إلى الأبد، فلا أرى منجى ثابتا ككلماتك وعواطفكِ، تحمل ثقة وأملا وربيعا بكرا.
تلكَ هي حقيقتك كما يوم ميلادكِ. فأنتِ أمّ كذلك، ولدتِ بهذه الطبيعة وخضت المتاعب والهموم باكرا، وتحمّلتِها وغلبتِها وتفتّحتِ دوما كزهرة غاردينيا ربيعية ينشر الصباح فوقها نداه. كنتِ أمّا لي في جزء كبير منها، قبل أن تكوني أماً لأطفالنا نسمّي عشرة منهم ونحلم. وما زلتُ كلّ يوم أشعر متعة اكتشافي للمرة الأولى أنّ الأنثى الحقيقية أمّ منذ وُلدت.
... تلك قبلات ثلاث، تعلوها زنبقة لأمي، وبنفسجة لأختي، واقحوانة لحبيبتي.