استعادة الروح
صباحكم أجمل
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
جميلة رام الله في الصباح كعادتها، حيث الهدوء المطبق عليها وهي تنـزع عن كتفيها سدل الليل وعباءته، لتخرج بهية جميلة هادئة، حيث الهواء البكر والنقي مشبعاً بعبق بحر يافا ونسماته، هي رام الله كانت ولم تزل تسكن القلب والروح، أجول معها ومنها في الذاكرة والحاضر والحلم والمستقبل.
أستعيد ذكريات رام الله في طفولتي، حين كانت تطلق كل عام مهرجانها الفني السنوي، فتصبح قبلة للزوار العرب من كل الأقطار، يحضرون مهرجانها ويتمتعون بجوها الجميل صيفاً، فكانت رام الله قبلة الأنظار قبل هزيمة حزيران ووقوعها تحت الاحتلال، وهاهي رام الله تحتفي برمضان كما تحتفي بالضيف والزائر العزيز، فتطلق مهرجانها الرمضاني الأول باسم محافظة رام الله والبيرة، ليكون حدثاً رمضانياً سنوياً، يضم في ثناياه كل ما هو جميل، ففي مساء الأمس وبدعوة من محافظ رام الله والبيرة وعلى خشبة مسرح قصر الثقافة كان البدء والإعلان، بحضور كبير متعطش للفن والموسيقى ودبكات التراث، بعد أن تشوهت ذائقتنا الفنية بأغاني لا علاقة لها لا بالكلمة ولا باللحن ولا بالصوت ولا حتى بالأغاني والطرب، فكان إطلاق المهرجان عودة إلى الأصالة والتراث، فكان البدء بآيات الذكر الحكيم والسلام الوطني، إلى كلمات الإعلان عن بدء المهرجان، إلى موسيقى التراث العربي قدمتها فرقة ادوارد سعيد التابعة للمعهد الوطني للموسيقى، ثم معزوفات أصيلة لفرقة الكمنجاتي، تلاها سهرة جميلة مع الدبكة الفلسطينية والغناء الفلسطيني الأصيل مع فرقة "أصايل" التابعة للمحافظة، فكان جهد جميلاً ومشكوراً للمحافظة والمحافظ الدكتور سعيد أبو علي، حيث سيتواصل المهرجان على فترة زمنية خلال شهر رمضان المبارك، تتراوح أمسياته ما بين الزجل الشعبي والمسرح والشعر والموسيقى وأمسيات شعرية وتكريم لأفراد ومؤسسات وأناشيد دينية.
كانت رام الله قد احتضنت الجولان المحتل من خلال أسبوع الجولان في رام الله، وبجهد مشكور من مركز خليل السكاكيني ومؤسسة عبد المحسن القطان، بدأ الأسبوع بمعرض لأحد عشر فناناً من الجولان المحتل في قاعات السكاكيني وقطان والحلاج، إلى عرض مسرحي لفرقة أطفال الجولان على خشبة القصبة، فقدموا مسرحية تاجر البندقية، بقالب جديد وجميل، فأظهروا النبل مقابل الخسة، والسمو مقابل جشع شايلوك، فأبدعوا وقدموا بمستوى الكبار المحترفين، كما تمت في قاعة السكاكيني قراءات أدبية، وسيتم عرض فيلم وعرض موسيقي أيضاً.
هكذا تكرس رام الله نفسها مدينة الثقافة والفن في الأراضي المحتلة، رغم المعاناة الذي من اجتياحات الاحتلال المتكررة، وتخضيب أرضها بحناء دماء الشهداء، وخطف أبناؤها إلى المعتقلات والأسر، فلا يرضي الاحتلال أن يرى ولو بسمة على وجه طفل، فكيف بمقاومة بالقلم والثقافة والفن والسينما والمسرح، حيث يصر شعبنا أن يقول: نحن شعب حي ومن حقنا أن نستمر في الحياة وأن نتحرر ونبني دولة مستقلة، من حقنا أن نعيش بكرامة بدون احتلال وبدون خفافيش ظلام وفاسدين ومفسدين، من حقنا أن نحيا كالشعوب الأخرى بحرية وكرامة بدون إطلاق رصاص ولا صراعات دموية على مقاعد حكم يحكمها الاحتلال، ومن حقنا أن نختلف مع بعضنا، لكن ليس من حق أحد أن يفرض علينا حل الخلاف بالرصاص، أو بالقمع ومصادرة حرية الآخر وكبت أنفاسه، من حقنا أن نحتكم لصندوق الانتخابات وليس إلى إرادة القائد الملهم والفذ، فقد مضى زمن القائد الزعيم الذي لا يخطئ، والذي يظن أنه قد حباه الله من المواهب ما يؤهله لأن يفكر عنا، ويتصرف عنا، ويقرر لنا حتى حجم الهواء الذي نتنفسه، ومن حقنا أن لا يحد أحد أفكارنا بقناعته الفكرية، أو بمصالحه المالية، وليس من حق أحد أن يحاصر الفكرة في النفوس وأن يحاسبنا على النوايا وما تخفي الأنفس، أو أن يفرط بذرة تراب من ترابنا الطهور تحت بند الواقعية السياسية أو التفويض الإلهي، من حقنا أن نتساوى أمام القانون وفي الحقوق وأن نتنافس في الواجبات، وليس من حق من بيدهم الأمر أن يقسمونا لقلة من أبناء الست، وكثرة من أبناء الجارية، فهو وطننا قدمنا من أجله الغالي والنفيس، الدم والمنفى والمعتقلات والتشرد، فلنا الحق فيه ولنا الحق أن نعيش بكرامة، فيكفينا ذل الاحتلال وقمعه، ولسنا بحاجة إلى قمع آخر من أي كان ممن دار به الزمان فإذا به يملك القرار في رقابنا، ولا يستطيع أن يدافع عنا أمام دورية من دوريات الاحتلال.
هو الصباح بنسماته والذكرى وجو رام الله الهادئ، رمضان الذي استبيح فيه مخيم عين الماء في نابلس، فسقي أهله الدم بدل حسوة الماء في الإفطار، والرصاص بدل التمر، وتدمير البيوت وتخريبها بدلاً من صلاة الجماعة، فقد حوصر المخيم ومنعت عنه كل أسباب الحياة لثلاثة أيام متتالية، وسقط فيه شهيدين ودمرت منازل وبنايات، وقُمع الأهل هناك ومنع عنهم الماء والغذاء والدواء، في ظل صمت مريب، وكأن المخيم في صحراء معزولة لا يدري به أحد، هكذا الاحتلال كان ولم يزل، فمتى سيدرك الساسة والقادة الهانئين بخلافاتهم ذلك.
صباح الخير يا رام الله.. صباح الخير يا وطني.. أجول في بعض من شوارع المدينة وأعود لصومعتي متأبطاً صحيفة الصباح، يلفني الحنين للأهل في المنفى والشتات، وحنين إلى قريتي الصغيرة التي حرمني الاحتلال من رؤيتها وزيارتها، حنين لذكريات في أنحاء الوطن وفي عمّان الطفولة والشباب، ومدن عربية أخرى في فترات الدراسة وما تلاها، حنين لحروف خمسة وطيفي الذي أشتاق إليه كاشتياق الصائم إلى جرعة الماء، فلا أمتلك وأنا أقف إلى نافذتي وحوض نعناعي والزهور، إلا أن أُحمل النسمات أشواقي وآمالي بلقاء ربما يكتب لنا يوماً، أستمع لفيروز كعادتي في الصباح تشدو:
"دخلك يا طير الوروار، رحلك من صوبن مشوار، وسلملي عا الحبايب، وخبرني بحالن شو صار، عا تلال الشمس المندية على ورق التلب الأصفر، وبكروم التين ينده تشرين.. يا حبيبي".
صباحكم أجمل..