قليل من عزلة ..
نور الجندلي
أتُوقُ إلى قليل من سكون .. قليل من عزلة ..
قليل من بعد عن صخب الحياة، وجلبة خطوات البشر .. على طرقات الدنيا الفانية ..
أتمنى أن أغلق نافذة الحواس، لأفتح بوابة قلبي ..
لأرى الأشياء بصورة أوضح، وأسمع الأصوات دون أن تتداخل في بعضها .. وأتحسس معانٍ كانت غائبة عني .. أتمنى أن أتنشق عبير الورد خالياً من أدخنة الحرائق .. أن أتنبأ بحلول عاصفة قبل أن أسمع خبر حلولها في النشرة الجويّة ..
أتمنى أن أسكب دمعي دون عناء .. دون أن أتناول جرعات فرط حساسية من مرض البكاء الذي لازمني منذ الخيبة الأولى التي تُصرُّ أن تفرض نفسها واقعاً ، فتتصدر بعناد الخبر الرئيسي لكوارث الأمة في نشرة الأخبار .
أتوق لأن أخلو قليلاً مع كتب غريبة، أن أنبش صفحات الحكايات القديمة التي ابتعلتها الأرض ذات مأساة .. وطواها النسيان ..
أتمنى أن أحفر قبوراً للظلمة، فأدفنها هنالك للأبد.. وأنتشل بطوق الأمل كل الأحلام الغارقة في محيطات الألم .
أشتاقُ لصمت يقودني إلى نفسي، يُرسيني على شاطئ الحقيقة، يتركني على جادة الصواب، فلا تتوه أقدامي حين تسيرُ في المنعطفات والطرقات الوعرة ، ولا ينتابني خوفٌ من غموض الحارات القديمة، ولا الأزقة الضيقة المتعرجة مهما عبست في ظلمة ليل .
أبحثُ عن خارطة أدرسُ فيها أماكن جديدة، غير مرئيّة، أتطلع عبرها للسير في عالم الأرواح، توقفني عند الخط الأحمر.. تخبرني أن أظهر أوراقي كاملة، مرفقة بجواز السفر ..
أتوخى الحذر .. قبل المرور .. قبل العبور إلى وديان الخطر ..
إلى مثلث برمودا الجديد، ذلك الذي يحتل يوماً بعد يوم مساحات واسعة ، يبتلعُ كل معاني الخير في الأرواح الطيبة .
أخبروني يوماً أن الجنة لا معنى لها بلا سكان ..
وخشيتُ أن أخبرهم بأن سكان الجنة ليسوا كأي سكان ..
وبأن الزهرة النضرة قد تفنى في غابة أموات ..
عزلة القلب قد تصنع جنة سقفها سماوي، وأرضها بساط عشبي ، وجدرانها مرايا للروح ..
قالوا لي .. إن مخالطة البشر تعلمك فنون الحياة، تجعلك خبيراً بأسلحة الغش والكذب والمراوغة والخداع ..تعلمك أن تفهم نفسك ، أن تتلمس نقاط ضعفك فتحيلها إلى قوة ..
وقلتُ لهم بأن الاحتكاك قد يشعل عيدان الحطب ..
احتكاك الأرواح الجافة ببعضها ، يوقد ناراً ، يبقي رماداً أو هشيماً أو حطاماً ..
عودي غض، وأنا كالطفلة أبحثُ عن عشٍ دافئ أتلمسُ فيه الأمان ..
قد قرأتُ في مكتبة جدي القديمة أن للعزلة فنون .. وبأن اللقيا فنون ..
وبأن حياة السعادة تترواح بين شيئين .. عزلة تصنعُ مجداً .. أو لقاء بإخوان معهم تمهد دروب النجاة ..وبهم تُصنع حياة الخلود، وإليهم يسعى من تهزّه الأشواق إلى الدار الآخرة .