حُرقةُ وطن
بتول مصطفى
في زيارةٍ خاصة لي إلى تركيا لم تتجاوز اليومان ، كان لابد لي أن أعبُرَ من أمام ِ مخيم اللاجئين السوريين أولاً ومن ثم أتجه للأراضي التركية في الداخل .
عندما انتهينا من عبور النقطة الحدودية أصبحنا بحاجةٍ إلى وسيلةِ نقلٍ كي تسير بنا إلى الداخل ، وإذ بي أرى باصٌ كبير قد كُتِبَ عليه باللغةِ العربية (مُخيَم ) ، وقد امتلىء بالعديد من الركاب السوريين فآثرتُ الركوب فيه فضلاً عن الركوبِ بسيارةٍ خاصة كونهُ ينقلُ ركابً من أبناءِ وطني الحبيب ، كان المركب مُكتظ برجالٍ ونساء ، شيوخ ٍ وأطفال ، ولما أن جلسنا وسار المركب بنا وإذ بي أسمع أنَاتٍ وعبراتٍ حارقة تخرجُ من فاه إمرأةً مسنة وتقول بالعامية السورية : ( آه ... آه ... آه يا حيف علينا نحن السوريين يصير فينا هيك . ياحيف .... يا حيف ) كانت تلفظُ تلك الكلمات وكأنما تُطلِقُ سَمٌ زُعافٌ من فمها .
على الرغم من أني جالسةُ أمامها مباشرةً ، ورأسي لا يبعد عن رأسها سوى بضع السنتيمترات إلا أنني لم أستطع أن ألتفت إلى الوراء لكي أرى ملامح وجهها الذي يسكنه الألم والحسرة المريرة على وطنٍ لم يعد فيهِ مكان إلا وقد طُعِن بسيفٍ مسموم أستلَهُ عليه الأخُ والصديق ، العدو والقريب ، وربما لأني قد فهمتُ في نفسي ماعنتهُ عندما قالت وخصصت السوريين بالذكر ولم تقل : ( ياحيف علينا نحن العرب يصير فينا هيك ) لأنها عندما قالت تلك الجملة المريرة كانت تعي تماماً ماقدمته سورية والسوريين لأشقائهم في الإسلام والعروبة عندما أتوا إلينا لاجئين وهاربين من نار الحرب ودمارها . نعم لم أستطع أن ألتفت برأسي إليها لأني مثلها قد خنقتني العبرات والزفرات الحارقة ، عندما تذكرت "جُمانة " التي قدِمت من جنوب لبنان هي وعائلتها وقد بُتِرت ساقها جراء إصابتها بالحرب وآثرتُ على نفسي وعائلتي إلا أن استقبلها في منزلي الخاص وأعتني بها حتى تشفى وأقسم عليها ألا تعود حتى تضع الحرب أوزارها ، وهاهي اليوم بعد أن شُفيت وعادت قد أرسلت إخوتها لقتل إخوتي وأبناء وطني .
آآآهٍ يا اُماه لماذا سأؤمئُ برأسي إليكِ ، ماذا عساني أقولُ لكِ .... صبراً يا اُماه فاصبري وأبشري . فهاهم " آل عمار " الذين صب عليهم المشركين سوء العذاب ، كما يصبُ اليوم أعداء الله والإنسانية على سوريتنا وشعبها بركان من الدم والنار ، هاهم قد تحولت محنتهم إلى منحة ربانية بعد أن بشرهم "رسول الله صلى عليه وسلم " بالجنة وقال لهم : " صبراً آل عمار فإن موعدكم الجنة " .
وها أنا ذا أقول لكِ يا اُماه : صبراً فإن شهداؤنا موعدهم الجنة إن شاء الله ، وشعبنا الجريح موعدهُ النصر والوطن الرغيد جزاءً بما صبر وتحمل إن شاء الله ، ولا تنسِ يا اُماه نحنُ أهل الشام ، نحنُ من قال فينا " رسول الله صلى عليه وسلم " :
(يا طوبى للشام ! يا طوبى للشام ! يا طوبى للشام ! قالوا : يا رسول الله وبم ذلك ؟ قال : (تلك ملائكةُ الله باسطةً أجنحتها على الشام ) .
كما بشرنا وقال : ( إني رأيتُ عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي ، فنظرتُ فإذا هو نورٌ ساطعٌ عُمد بهِ إلى الشام ، ألا أن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ) .
فاصبري يا اُماه وصابري من كان الله معه فماذا فقد ، ومن فقد الله ماذا وجد ؟؟ !!
فليكفينا فخراً وعد الله ورسوله لنا إذ قال : " لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " .
فهنيئاً لكِ مُصابك الجلل يا اُماه وهنيئاً لكم أمهات سوريتي.