كابراً عن كابر
عبد الرحمن الحياني
تعلو وجه هالة من نور ، تدفعك إلى الاقتراب منه ، لكنه يكون المبادر دائمًا ، يسلم عليك بحميمية كأنه يعرفك منذ أمد بعيد ، يحتفي بك كلما لقيك ، اجتماعي بطبعه ، يرتاد مسجد الحي على الدوام ، يعطي الصلاة حقها من الوقت ، لا تعرف العجلة إلى قلبه سبيلاً ، ما إن وطئت قدماه الحي حتى تعرف على سكان البناية دون تردد ، حفظ أسماء الأولاد بسرعة فائقة ، تواضعه غير متكلف ، يقدر للجيرة حقها ، يحرجني كثيرًا عندما ينادي
" أستاذنا " وأصر على مناداته " أخي " ، إنه جارنا الهندي الجديد ، المتقن للعربية الفصحى ، ذاك الذي يعمل في ... لا أعرف بالضبط مكان عمله ، لكنه بعد أن دعاني بإصرار في الصيف الماضي لتناول طعام العشاء في شقته ، علمت أنه يعمل في السجن المركزي ، واعظا أو اختصاصيًا اجتماعياً ، لا علينا من التسميات الدقيقة ... فوجئت عند دخولي إلى شقته يومها ، حضور عدد كبير من الضيوف ، إنهم زملاؤه في العمل ، دعاهم جميعا لتناول طعام العشاء بمناسبة انتقاله إلى الشقة الجديدة ، ولم ينس دعوة بعض جيرانه في الحي القديم الذي كان يسكنه ، حيث قام بتقديمي للضيوف ، وفوجئت بأن عدداً غير قليل هم من رؤسائه في العمل ، حضروا هذه الدعوة وراح بعضهم ـ بعد أن تناولنا طعام العشاء ـ يذكر بعض مناقب الرجل _ أقصد جاري الجديد _ ودهشت حقاً عندما علمت أن هذا الرجل له قصة عجيبة ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا ويعلن أحد السجناء إسلامه على يديه ، فقلت في نفسي – الآن أدركت سر هذا النور في وجه هذا الرجل الطيب المتواضع ، وعرفت كنه هذه السكينة التي تغشاه ، إنه ـ والله ـ الإخلاص في الدعوة لله جل شأنه ، وصدق النية التي يحتاجها الداعية إلى الله ، فلا غرابة بعد ذلك أن تكون باعه طويلة في المطالعة والدراسة في كتب الفقه والسيرة والأحكام ، علاوة على شغفه بالكتب العربية ، وهذا ما أزال دهشتي ـ عندما دخلت غرفة الضيوف عنده ـ إذ رأيت عدداً كبيرًا من الكتب والمجلدات المركومة في ركن منها ، تنتظر الترتيب ، فصاحبنا لم يستقر في البيت بعد .. وبعد يوم أو يومين من ذلك التاريخ خرجت من منزلي قبيل أذان المغرب قاصداً المسجد ، فلقيته عند باب شقته ، سلمت عليه وتجاذبنا أطراف الحديث عن الأحوال والأشغال ، ولم يطل الحديث بيننا ، فالمسجد لا يبعد كثيرًا ، وعندما هممنا بالدخول إلى المسجد ـ وكان عن يميني ـ قدمته ليدخل فأبى ، فبادرته بقولي : اليمين أولاً ، فأجابني : لا يا أستاذنا أي يمين ! بل كابرًا عن كابر فأذهلني بقوله هذا !.. كيف لا ؟! وصاحبنا يريد أن يقر بالفضل لحملة هذا الدين من العرب ، الذين نزل القرآن بلغتهم ، إنه يريد أن يقول ـ وقد قالها مختصرًا ـ : إنكم توارثتموها – أي هذه الدعوة – كابرًا عن كابر ، وجيلا بعد جيل ، وفهمتم المقاصد دون ترجمان أما نحن ـ الأعاجم ... ـ إنه يريد أن يقدمني في الدخول مقدمًا ميراث النبوة فينا نحن العرب ,, أطرقت خجلا ولم أحر جوابًا .. وقلت في نفسي وقد عرتني سحابة من حسرة ورددت في حزن عميق : يا ليتنا كنا على قدر المسؤولة ...