خواطر من الكون المجاور
(الخاطرة 2: الرعاية اﻹلهية)
ز. سانا
في بداية العام الدراسي للبكالوريا والتي إمتحاناتها ستحدد نوع الكلية التي سأتابع فيها تعليمي ،راح فكري يبحث في نوعية العلوم التي تدرّس في كل كلية، وفائدة كل علم من هذه العلوم في مساعد...تي في حل مشكلة العنف وأسباب ظهوره المبكر عند اﻷطفال،هذه المشكلة التي تتزايد يوما بعد يوم لتصبح أكبر مشكلة يعاني منها العصر الحديث ،حيث فشلت جميع العلوم في حلها أو الحد منها ، وكنت على يقين مطلق بأن الله عز وجل نفسه قد جعل حل هذه المشكلة (مشكلة العنف عند اﻷطفال ) هدف حياتي اﻷول أو ربما كانت هي سبب وجودي في هذ العالم !
بالنسبة لكلية الطب مثلا وجدت أنها تمنحني فقط 10% من المعلومات التي أنا بحاجة لها ،كلية الهندسة المدنية أيضا كانت تساهم بنسبة أقل بكثير.. كلية اﻹجتماع ربما كانت نسبتها أعلى قليلا ولكنها هي أيضا تنقصها أشياء كثيرة، كلية الفلسفة....كلية اﻵداب......كلية الحقوق ..... وبعد البحث الدقيق في نوعية كل كلية وبدلا من وصولي إلى إختيار واحدة مناسبة وجدت نفسي أسقط في دوامة من الحيرة ورأيت بأنه إذا أردت الحل المثالي لمشكلتي ليس علي إلا أن أدرس في جميع الكليات ﻷن حل المشكلة التي أبحث فيها تتطلب علوما شاملة قد تم توزيعها على جميع الكليات، ولكن إمكانية الدراسة في جميع هذه الكليات طبعا كان شيئا مستحيلا.
لا أدري ربما هذه الحيرة في هذا الموضوع وعدم قدرتي على تحديد الكلية المناسبة لي قد ساعدني في أن تظل طريقة دراستي كما كانت عليها في السنوات السابقة، وهي قراءة صفحات الكتب بسرعة مماثلة لسرعة مشية السلحفاة! حيث كنت أقرأ وأتوقف في كل فقرة وأتمعن بها وأدخل في معاني كلماتها وكأني أفحصها فيما إذا كانت تخفي سرا أو سما يؤثر سلبيا على طريقة تفكيري وسلوكي وهذا ( التحول ) كان أكبر مخاوفي في الحياة وهو أن أتحول إلى إنسان آخر لا علاقة له مع ذلك الطفل الذي استطاع تكوين شخصية محبوبة من الجميع يسير في طريق واضح اﻹتجاه، و بكلام أوضح هو خوفي من أن يستطيع أحد إخراجي من هذا الكون الذي أعيشه والذي كنت أشعر فيه برعاية إلهية تحميني من كل اﻷخطار وتقودني إلى تحقيق هدف معين ، بالرغم من أنني في ذلك الوقت لم أكن أعلم شيئا عن وجود هذا الكون ( الكون المجاور) ولكن كان مجرد إحساس يصعب تفسيره.
وحتى أتمكن من توضيح سبب بطء سرعة قراءتي للكتب المدرسية سأذكر لكم مثالا بسيطا جدا والذي في الوقت نفسه سيساعد على توضيح المعنى الروحي للموضوع الرئيسي :عندما قرأت قصيدة دمشق ﻷحمد شوقي -لا أذكر في أي صف -وقرأت البيت الذي يقول فيه :
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
بما معناه أن الحرية لونها أحمر وأن ثمنها غالي وكل شخص يريد أن ينالها يجب أن يناضل ويثور ويحارب ويقتل حتى يتحول لون يده إلى اللون اﻷحمر من دماء أعدائه.
شعرت في البداية أن قائل هذا البيت هو نفسه "سبارتكوس" الذي قام بثورته ضد اﻹمبراطورية الرومانية قبل الفين عام، ولكن عندما علمت أن قائل هذا البيت هو من شعراء العصر الحديث وانه أيضا حائز على لقب أمير الشعراء ، ورغم أن ثقافتي في ذلك الوقت كانت لا تزال ثقافة فطرية وبدون اي إثباتات علمية ولكن مع ذلك شعرت بوجود فجوة فكرية واسعة جدا بين ثقافتي الفطرية وبين ثقافة أحمد شوقي اﻷكاديمية والتي حصل عليها أيضا أولئك الذين أعطوه لقب أمير الشعراء وكذلك اﻷساتذة الذين وضعوا هذه القصيدة في الكتب المدرسية ليقرأها الطلاب ولتصبح ستارا أمام أعينهم حتى لا ترى النور ولتبقى أعينهم إلى اﻷبد في ظلام عصور اﻹنحطاط التي كانت ولا تزال تعيشها اﻷمة العربية حتى اﻵن
شعرت ان هذا البيت الشعري يحوي أخطاء كثيرة ولا اقصد النحوية بل جوهرية لا تدل سوى على جهل مطلق بعلوم كثيرة! هذا الشعور جعلني بدلا من قراءة القصيدة عدة مرات كما يفعل زملائي الطلاب لحفظها غيبا ولضمان علامات عالية في اﻹمتحان ،رأيت نفسي أذهب و أبحث في فكري عن ألوان اﻷشياء في الطبيعة فهذه اﻷلوان لم تخلق صدفة ولكن ضمن حكمة إلهية فهي تؤلف فيما بينها بيئة روحية وهي أيضا وسائل إتصال وإشارات تعبيرية تساعد على معرفة هوية الشيء ،لذلك فإن إختيار أي لون لتكوين شيء ما يجب أن يتم بحذر وبعد تفكير طويل ليستطيع هذا الشيء القيام بدوره- الذي صنع من أجله- على أكمل وجه. وبعد البحث في ألوان الطبيعة رأيت أن لون الحرية حسب الحكمة اﻹلهية هو لون السماء ( اﻷزرق ) لذلك السجين عندما يأخذ حريته ويخرج من باب سجنه نراه ينظر إلى السماء ويستنشق ملئ صدره شيئا منها ولكن أحمد شوقي يقول في قصيدته بما معناه بأن هذا السجين بدلا من أن ينظر إلى زرقة السماء يجب عليه أن ينظر إلى اﻷرض ويغوص بها حتى يصل إلى طبقتها الحمراء المنصهرة المحبوسة في داخل اﻷرض فهناك تكمن الحرية الحمراء!
إثبات آخر وهو أن حكمة الله في تطور الكائنات الحية كان من الكائنات التي تسير على اﻷرض إلى الكائنات الجوية التي إكتسبت جناحا تستطيع به الإنتصار على الجاذبية ليحلق بها في السماء الزرقاء العالية، ومن أبسط اﻷدلة اﻷخرى على جهل أحمد شوقي بعلم اﻷلوان أن من يغضب يتحول لون وجهه إلى اللون اﻷحمر و الذي يدل على أن كمية الدم الصاعدة إلى الدماغ قد إنخفضت لذلك نرى أن تصرفات الشخص في لحظات الغضب تكون تصرفات غير عقلانية وفي أغلب اﻷحيان يرتكب أخطاء يندم عليها فيما بعد ويتمنى لو أنه لم يفعلها وهذا يعني بأنه في لحظات الغضب تلك لم يكن حرا في تصرفاته بل كان تحت سيطرة غرائزه الحيوانية ،لذلك جميع الديانات تعتبر صفة الحِلْم -كنوع من السيطرة على النفس ضد الغضب - بأنها صفة من صفات الإيمان، ومن يبحث أيضا في علم اﻷلوان وتأثير أشعتها على السلوك الروحي للإنسان يرى أن أشعة اللون اﻷزرق تنعش اﻹحساسات الروحية فيه ورؤيته للون اﻷزرق تجعل تفكيره يحلق بعيدا ليكتشف أسرار سلوكه وسلوك كل شي روحي حوله وأنه أيضا يحمي اﻹنسان من القيام بأفعالٍ متهورة تؤدي إلى الضرر بنفسه و باﻵخرين و بمعنى آخر اللون اﻷزرق يجعل اﻹنسان أرقى روحيا أما أشعة اللون اﻷحمر فهي على العكس تقوم بتهيج النشاط الجسدي على حساب النشاط الروحي مما يؤدي إلى تهيج الغرائز الحيوانية على حساب العواطف اﻹنسانية وهنا يتحول سلوك اﻹنسان إلى سلوك كائن أقرب إلى الحيوان منه إلى اﻹنسان وهذا يعني بأن الحرية الحمراء التي يتكلم عنها أحمد شوقي هي في الحقيقة تحرير ذلك الحيوان الذي يكمن داخل اﻹنسان والذي حاولت الحضارات والديانات منذ ولادة اﻹنسانية القضاء على هذا الحيوان ومنعه في التأثير على سلوك اﻹنسان ،فالهدف الحقيقي لنزول الديانات وظهور الحضارات كان لتحويل اﻹنسان من كائن حيواني إلى كائن إنساني خالي من جميع الشوائب الحيوانية كما تقول اﻵية اﻷخيرة من سورة البقرة.." لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما إكتسبت ......"
وبالنسبة للشطر الثاني من البيت ( بكل يد مضرجة يدق) هنا أيضا يحمل جميع صفات الجهل بأنواع العلوم المختلفة وأهمها علوم القرآن الكريم الذي أول آياته التي نزلت على نبي اﻹسلام صلى الله عليه وسلم كانت(..إقرأ وربك اﻷكرم. الذي علم بالقلم.) بالقلم والعلم أرأد الله من الناس أن تتخلص من سجنها الذي كان سببه الجهل سواء كان كمعنى (سرعة الغضب ﻷتفه اﻷسباب ) أو كمعنى (قلة المعرفة في شتى العلوم ) وليس من الصدفة أن عصر ما قبل اﻹسلام كان يدعى عصر الجاهلية ليكون رمزا يعبر عن الحالة اﻹجتماعية التي كانت تعيشها اﻹنسانية ، وفي الوقت نفسه لتوضح دور الدين اﻹسلامي في القضاء على هذا الجهل لذلك كان إسم أول سورة نزلت من القرآن الكريم هي سورة "العلق" ﻷن اﻹنسان يولد معلقا (مسجونا) في هذه الكرة اﻷرضية بعد خروجه من الجنة ولذلك أيضا كانت أكبر معجزة في حياة الرسول هي معجزة اﻹسراء والمعراج لتعبر عن معنى التحرر من سجن جاذبية الكرة اﻷرضية، فيد اﻹنسان لم تخلق بهذا الشكل لتكون أداة قتل مصبوغة بحمرة الدماء كما يعتقد أحمد شوقي ولكن لتكون أداة "إبداع"... لذلك وضع الله في كف يد اﻹنسان خطوطا لها شكل( I Λ ) لتعبر عن رمز العفة والسلام ( شرح هذه الخطوط موجود في صفحة 281 من كتاب - عين الروح ،اﻷطفال- )
والمشكلة هنا ليست فقط في فكر أحمد شوقي ولكن المشكلة هي في مستوى فكر الأدباء وجميع المفكرين العرب الذين حتى الآن لم يحاولوا نقد هذه القصيدة وحذفها من الوجود، لأنها عار في منطق فكر العربي الحديث. فمن العار حقا ان يكون أمير الشعراء العرب في هذا المستوى من الجهل. قد يكون أحمد شوقي قد توفي قبل أن يظهر فكر غاندي الحكيم الهندي على الساحة العربية ولكن المفكرون العرب الذين عاشوا أحداث ثورة إستقلال الهند وما بعدها ألم يروا أن غاندي إستطاع بإستخدام الكلمة الطيبة بدلا من السلاح توحيد نصف مليار هندي من أديان ولغات مختلفة ليقف عاري الصدر واليد أمام بنادق جنود اﻹحتلال البريطاني وليرفع شعار اﻹستقلال قائلا (الشجعان سلاحهم المقاومة السلمية) هذه العبارة العذبة التي سمعها الشعب البريطاني وتحولت إلى صرخة روحية قوية سمعتها روح كل أم جندي بريطاني وكل زوجة وكل طفل في بريطانيا وجعلتهم يقفون جميعا في صف غاندي،هذا اﻹحساس الروحي الذي إنتقل من اﻷم في بريطانيا إلى إبنها في الهند ،من الزوجة إلى زوجها ،من الطفل إلى أبيه دون أسلاك هاتفية أو أي أجهزة إتصال ولكن هكذا عبر الهواء من روح إلى روح ! وجعلت الجندي البريطاني يرى الصدور العارية أمامه ولا يستطيع إطلاق رصاصة واحدة نحوها خجلا من نفسه ،هذا الخجل الذي أرغم الحكومة البريطانية على اﻹنسحاب من الهند لتاخذ إستقلالها وحريتها . ما أعظم اﻹنسان عندما يستخدم قواه اﻹنسانية وما أبشعه عندما يستخدم قواه الحيوانية... هل يمكن مقارنة طريقة غاندي في حصوله على الحرية مع طريقة أحمد شوقي؟!..للأسف لا وجه لأي مقارنة ﻷن غاندي كان متقدما حضاريا على أحمد شوقي بفارق ألف عام! فكر غاندي كان قريبا جدا من تعاليم محمد نبي اﻹسلام وعيسى عليهما الصلاة والسلام بينما أحمد شوقي والمفكرين العرب الذين وضعوا هذه القصيدة في الكتب المدرسية كانوا بعيدين جدا عن اﻹسلام والمسيحية وقريبين جدا من الماركسية!. ومن ينظر إلى وضع الوطن العربي كما هو ممزق اﻵن فكريا ودينيا وجغرافيا سيتأكد مباشرة بأن الكتب المدرسية حقا محشوة بأفكار إنحطاطية لا تجلب سوى التفكك واﻹنحطاط. ... لذلك كانت سرعة قراءتي البطيئة كمشية السلحفاة لهذه الكتب نعمة من الله وهي إحدى مميزات الكون المجاور -الرعاية اﻹلهية -.
قراءتي كانت بطيئة بينما اﻷيام كانت تمر بسرعة كبيرة وبدون أن أشعر رأيت فجأة أن موعد اﻹمتحانات على بعد ثلاثة أسابيع فقط وأنا لم أكن أزال غارقا أبحث عن إثباتات تؤكد لي صحة ظني في خطأ تلك النظرية و مساوئ تلك الفكرة وخطورة ذلك الرأي وما أكثرها في كتب صف البكالوريا. وﻷول مرة في حياتي شعرت بشيء يشبه الخوف، خوف من أن أخرج رغما عني من هذا الطريق الذي قررت منذ صغري أن أسير به لأكتشف تلك اﻷسرار التي وهبت حياتي من أجلها. ....فثلاثة أسابيع لا تكفي للنجاح حتى وإن نجحت فسيكون مجموع العلامات غير كافٍ لدخول أي كلية جامعية ومن المعروف أنه من ليس لديه شهادة جامعية لا أحد يسمع آرائه العلمية (في ذلك الوقت ...أما الآن حتى يلتفت إليك الناس ليسمع رأيك العلمي يجب أن يكون قبل إسمك كلمة -دكتور- للأسف)
وراح فكري يبحث ويبحث عن حل ﻷنقذ نفسي من هذه الورطة التي لم أحسب حسابها أبدا، وبعد تفكير طويل لم أجد سوى حل واحد وهو أن أرسب بإرادتي في اﻹمتحان فمن اﻷفضل أن أخسر عاما واحدا بدلا من أن أخسر معنى حياتي بأكمله، وكان هذا القرار محزن ،محزن جدا..... بالنسة لي لم يكن يهمني نفسي ولكن ماذا سيكون شعور أمي وأبي وإخوتي عندما سيسمعون أن إبنهم الذي لطالما سمعوا عنه من الآخرين أجمل الصفات، بأنه لم يستطع النجاح وأنه قد لا يستطيع أبدا الحصول على شهادة جامعية ..سيكون وقع هذا الخبر عليهم صادما و قاسيا و سيجعلهم فجأة يشكون في مقدراتي العقلية التي كانت دوما لا مصدر الطمأنينة لهم فقط بل فخورين كذلك.
ورغم صعوبة الموقف قررت أن أجهز نفسي ﻷسير على هذه الخطة، والخطة كانت أن أضمن رسوبي في ثلاث مواد مهما كلف اﻷمر لذلك صببت كل إهتمامي على دراسة بقية المواد بحيث أستطيع النجاح فيها بعلامات لا بأس بها وبشكل يظهر للكل بأن سبب رسوبي في البكالوريا لم يكن ضعف مقدرتي على إستيعاب المواضيع ولكن سببه سوء الحظ. ..وسوء الحظ كان إصابتي بمرض عابر أثناء أيام اﻹمتحانات وبهذه الطريقة سيكون حزن أهلي أقل بكثير ﻷنهم يؤمنون بالقضاء والقدر. وﻷنهم أيضا لن يفقدوا اﻷمل بأن إبنهم سيحصل عل شهادة جامعية يوما ما.
أحد هذه المواد االثلاثة لتي قررت الرسوب فيها كانت مادة الرياضيات..ولكن الرعاية اﻹلهية -أحد قوانين الكون المجاور- كانت تخطط بشكل مختلف نهائيا، فقبل أسبوعين من اﻹمتحانات حدثت حادثة قلبت اﻷمور رأسأ على عقب
كنت عائدا إلى البيت وما أن لمحتني ابنة الجيران الصغيرة "سناء" رأيتها تترك فورا اللعب مع صديقاتها في الشارع وتصرخ لأختها الكبيرة مشيرة إلي لتعلمها عن قدومي ..في البداية لم أفهم شيئا ولكن عندما صعدت إلى بيتهم علمت بأنهم بحثوا عني ﻷحضر مع ابنة الجيران وشاب آخر من الحي - كلاهما أيضا في صف البكالوريا- درس خاص سيعطيه أستاذ رياضيات وسيشرح لهم تمارين هامة جدا ستأتي في الإمتحان، في البداية تمنيت لو أن أختها الصغيرة لم تلمحني ليمر هذا الدرس الخاص بدوني ﻷني في جميع اﻷحوال لن أدرس هذه المادة، ولكن جلست معهم رغما عني وبدأت أتظاهر بإهتمامي في حل التمارين فكما فهمت كانت مدة الدرس قد شارفت على اﻹنتهاء ، بعد لحظات قليلة قال الأستاذ بأنه سيحل تمرينا هاما جدا يأتي دوما في اﻹمتحان، وأرانا التمرين وذهب يحله وراح يكتب ويكتب وإنتقل إلى الصفحة التالية وحل التمرين لم ينتهي بعد ثم إنتقل إلى الصفحة الثالثة، و بعد دقائق وصل الأستاذ إلى الحل، أخذت الفتاة الدفتر من أمام اﻹستاذ وألقت نظرة إلى تلك اﻷرقام التي ملأت ثلاث صفحات تقريبا وسألت الإستاذ : هل من المعقول أن يأتي في اﻹمتحان تمرين بمثل هذه الصعوبة؟ وكانت إجابة اﻹستاذ : طبعا إذا لم يأتي هذا التمرين سيأتي تمرين آخر مشابه له تماما ، فعلق الشاب اﻵخر قائلا: إذا حدث خطأ بسيط في منتصف حل التمرين ضاعت علامة التمرين كله! وكانت إجابة اﻹستاذ : هكذا هي الرياضيات تحتاج إلى إنتباه شديد و دقة في الحسابات ، ورأيت لمحة حزن ترتسم على ملامح وجه الفتاة وشعور أشبه بخيبة اﻷمل وكأن حلمها في النجاح في البكالوريا ودخولها إحدى الكليات قد حطمه هذا التمرين فجأة أمام عينيها ،وشعرت بأن روحها في داخلها بدأت تبكي أمام هذه الواقعة المريرة التي إكتشفتها فجأة، هذه الملامح التي رأيتها على وجهها في تلك اللحظات جعلتني أتذكر وجهها عندما توفي أخاها الصغير (سلام ) ذو الست سنوات. سلام. .هذه الكلمة التي وهبت نفسي من أجلها .
وشيئا فشيئا وجدت ذاكرتي تعود بي إلى الماضي ﻷعيش تلك الذكريات اﻷليمة في اﻷيام اﻷخيرة من حياة الطفل ( سلام) ،ورأيت صورة وجه أمه يظهر أمامي وهي تبكي وتقص على أمي وأخواتي ما قاله لها إبنها الصغير عندما رأى الدموع في عينيها وهي تنظر إليه " سأطلب شيئا منك يا أمي. ...عندما أموت لا تبكي كثيرا من أجلي....تذكري أن موتي سيحدُث شيئا سعيدا فأخي جورج لن يذهب إلى الحرب." هذه الكلمات التي أبكت جميع نساء الحي وربما بعض الرجال أيضا ،فهمها الجميع على أن الطفل (سلام) يقصد أنه بعد وفاته سيصبح أخاه اﻷبن الوحيد في العائلة وقانون الجيش يعفي الإبن الوحيد من الخدمة اﻹلزامية، ولكن بالنسبة لي كانت هذه الكلمات ليست إلا رسالة سماوية نطقتها روح هذا الطفل الصغير الذي تحول إلى ملاك ليحمل لي هذه الرسالة السماوية ويطلب مني أن لا أنسى سبب وجودي في هذه الدنيا. ..لا أحد يعلم كلمات هذه الرسالة التي نطقها فم الطفل (سلام )منذ ذلك الوقت كم قد أعطتني قوة ﻷقاوم جميع اﻹغراءات التي تظهر أمامي بين فترة وأخرى وﻷحافظ على المسير في طريقي الذي رسمه الله (دراسة وكشف المعنى الشامل لعاطفة السلام)!
أحاسيس عديدة غريبة ملأت روحي فجأة و جعلتني بدون وعي أنتقل مباشرة إلى (الكون المجاور ) ورأيت نفسي آخذ صفحات حل التمرين من أمام الفتاة وأفتح دفتري وأكتب عليه التمرين وأبدأ في حله من ذهني، ظن الجميع بأنني أنقل حل التمرين إلى دفتري، وبعد لحظات وضعت دفتري أمام الأستاذ قائلا له : عفوا أستاذ أنا حصلت على النتيجة نفسها ولكن بإستخدام طريقة أخرى! نظر الأستاذ إلى النتيجة فرآها صحيحة فقال لي "برافو " ونظر إلى اﻵخرين وتابع كلامه : ليس المهم الطريقة ولكن المهم هو الوصول إلى النتيجة الصحيحة ، ثم إلتفت إلى دفتري ومسك الصفحة وقلبها ليرى كيف بدأت بحل التمرين ولكنه رأى الصفحة فارغة وعلم عندها بأني قد أستطعت حل التمرين بصفحة ونصف فقط وهذا يعني أني قد إختصرت الحل إلى نسبة 55%من طريقته هو، وفجأة وأمام هذه الحقيقة شعر بصدمة بعثرت كل أفكاره ونظر إلي وكأنه ينظر إلى شخص صنع معجزة فجأة أمامه ثم عاد إلى التمرين وراح يتمعن به جيدا ليعلم كيف تم إختصار حل التمرين بنسبة 55% ولكن بسبب الصدمة لم يفهم ما يحدث فعاد من جديد يحاول معرفة طريقة اﻹختصار، الفتاة والشاب شعروا بتلك الحالة النفسية التي يمر بها الأستاذ في تلك اللحظات، وظلوا بفارغ الصبر ينتظرون رأيه، عندما إنتهى وبحركة لاشعورية أخرج علبة السجائر من جيبه وأخذ واحدة منها وأشعلها وسحب نفسأ عميقا وفجأة إنتبه إنه يدخن أمام الطلاب فقال :إعذروني ولكن زميلكم هذا قلب مفاهيم وقوانين الرياضيات التي تعلمتها رأسا على عقب !
أخذت الفتاة دفتري من أمام الأستاذ بطريقة وكأنها تخطفه خطفا وراحت تقرأ التمرين وشيئا فشيئا بدأت تختفي من وجهها لمحة الحزن وخيبة اﻷمل ولما إنتهت من قراءته قالت بصوتٍ وكأن روحها قد ردت إليها ثانية (هذه الطريقة سهلة جدا ) وكانت كلماتها هذه الصدمة الثانية للأستاذ ولكن لم يكن بإستطاعته سوى أن يهز رأسه موافقا ويمسك بالقلم ويضع على صفحاته التي حل فيها التمرين علامة X كبيرة بطريقة وكأنه يشتم نفسه ويشتم معه جميع أولئك الذين علموه الرياضيات.
بعد لحظات كان موعد الدرس قد إنتهى فصعدت إلى البيت وفكري يبحث ويبحث عن معنى ما حدث، فما حدث اليوم لم يكن صدفة ولم يحدث بسبب كوني عبقري في علم الرياضيات فجميع علاماتي في إمتحانات الرياضيات كانت جيدة ولكن لم تصل أبدا إلى مستوى الجيد جدا أو الممتاز. وما حصل قبل لحظات لم يكن سوى نوع من أحد أنواع الرعاية الإلهية ( أحد قوانين الكون المجاور ) . وبعد تفكير طويل في تفسير الحادثة وصلت إلى نتيجة، فما حدث حسب تفسيري لم يكن إلا رسالة من الله عز وجل لذلك حدثت في بيت الطفل المرحوم ( سلام ) ليساعدني في تصحيح قراري في مشكلتي ، وانه يجب علي اﻹستعداد لتقديم اﻹمتحانات بهدف النجاح وبأنه لا حاجة أن أخدع أهلي وأخسر عام كامل من حياتي فما حصل معي من بداية العام الدراسي والذي سبب لي ذلك النوع من القراءة ( القراءة البطيئة ) لم يكن خطأ مني ولكن كان أيضا حكمة من عند الله
بعد هذه اﻹستنتاجات طلبت على الفور من أخي الصغير أن يساعدني في تنظيف ( السقيفة ) لتكون مكان دراستي ﻷنها كانت منعزلة عن بقية الغرف، وعندما إنتهيت جلست فيها وحولي كتب جميع المواد ودعوت الله في نفسي (إلهي بهذه المقدرة العقلية التي وهبتها لي أنت، وصلت إلى هذا التفسير وهذا القرار وها أنا اﻵن أسلمك أمري ) وفتحت أول كتاب أمامي وقلت في نفسي ( بسم الله الرحمن الرحيم) ورحت أقرأ الفقرات ولكن هذه المرة ليس بسرعة السلحفاة ولكن بسرعة الفهد.
بعد عدة أسابيع من إنتهاء اﻹمتحانات ظهرت النتائج ورأيت في لائحة قائمة الناجحين في المدرسة قرب إسمي مجموع علامات يجعل 80% من الكليات الجامعية تفتح لي أبوابها، وعندما وصلت البيت فرحا ﻷخبر اﻷهل بمجموع علاماتي ،رأيت أختي تقول فرحة (هندسة ميكانيك ) ورأيت أخي الصغير الذي ساعدني في التنظيف يطبطب على ساعدي ويقول مفتخرا ..أهلا بالباش مهندس!
مهندس ميكانيك !؟؟ ما علاقتي أنا بهندسة الميكانيك. ..رحت أحدث نفسي. ومباشرة تذكرت بأن أول مكان عملت فيه كانت ورشة جارنا اﻷرمني وكانت ورشة ميكانيك سيارات...شيء ما في داخلي بدأ يدفعني إلى التفكير. .هل من المعقول أن عملي في تلك الورشة كان علامة إلهية ﻷعلم مدى أهمية هندسة المكيانيك في أبحاثي وأن هذا العلم هو الذي سيساعدني في اﻹجابة عن جميع إستفهاماتي التي أبحث عنها..ولكن. ما علاقة دراسة حركة اﻵلات المعدنية الخالية من الروح في أبحاثي التي تهتم بالسلوك الروحي للإنسان والكائنات اﻷخرى...ولأيامٍ عدة ظلت افكاري تبحث عن شيء ما يربط هندسة الميكانيك مع ما كان يشغل إهتماماتي الروحية، ولكن رغم التفكير الطويل لم أجد أي رابط، أي رابط على اﻹطلاق.
في ذلك العام تم رفع معدلات قبول الجامعات ورأيت أن هندسة الميكانيك نفسها قد أغلقت أبوابها أمامي، وبدلا منها رأيت كلية أخرى تفتح لي أبوابها وهي كلية الزراعة هذه الكلية الوحيدة التي لم يأتي ذكرها في فكري أثناء بحثي عن علوم كل كلية وفائدتها في أبحاثي..... وبعد إنتهائي من التفكير بكلية هندسة الميكانيك وجدت نفسي أفكر في علاقة كلية الزراعة بنوعية أبحاثي..ولكن عندما بدأت الدراسة في صفوف هذه الكلية عندها علمت بأنها حقا تحقق ما كنت أعتبره مستحيلا فهذه الكلية كانت تجمع جميع علوم الكليات العلمية المختلفة في كلية واحدة..طب وأمراض . .كيمياء. .هندسة عمارة وميكانيك. ..علم نبات. .علم حيوان. .طبوغرافيا. .جيولوجيا. .بيئة. .فيزياء. .رياضيات...إقتصاد. .ولم يبقى إلا تلك العلوم اﻹنسانية ( شريعة. فلسفة..تاريخ..آداب .علم نفس) هذه العلوم التي كنت من صغري أبحث فيها بشكل فطري دون أن أسمح ﻷحد أن يعلمني شيئا منها ﻷنها وصلت إلى مرحلة اﻹنحطاط.
بعد سنوات طويلة علمت لماذا كلمة (ميكانيك ) ظلت في فكري دون أن أنساها أبدا، وعلمت أن فهم قوانين الكون المجاور الذي أعيش به فترات وفترات يعتمد على فهم علم ميكانيكا الكم أو ما يسمى بالفيزياء الكمية والتي سأشرحها كنظرة روحية وليس كنظرة فيزيائية في الخواطر القادمة إن شاءالله....