إني أدين اغتيالي
إني أدين اغتيالي
فاطمة بوزيان *
هذا الشهر مر حزينا، موجعا، وكئيبا.. مر وفيه كل النعوت الحزينة ! سقط المطر الذي انتظرته طويلا ولم افرح.. تلقيت هدية بعد أن ضاعت طويلا ،منذ ذكرى ميلادي،في دهاليز البريد ولم افرح.. جاءت لزيارتي أمي؛ بعد شوق حملته لها من شهور؛ ولم افرح.. اشتريت كتبا، أحذية، ملابسا، عطورا،ولم افرح.. التقيت كاتبا مغتربا لم أره منذ سنة ولم افرح.. كل أبواب الفرح شرعتها في وجهي ولم افرح... |
المخرج العالمي السوري مصطفى العقاد |
من أين يأتيني كل هذا الحزن كي أغلق الأبواب في وجهه ويرحل عن سمائي؟
كان هناك، هناك في قلبي يشبه انفجارات عمان بشكل عام..على وجه التحديد اغتيال العقاد وابنته ريما، على وجه التحديد أكثر، وفاة العقاد، تحديدا اغتيال فروحي !
هل توجد حياة بلا فرح؟ !
من هنا أدين اغتيال العقاد..
أدين اغتيالي.
* * *
فرح ما قبل المراهقة، هكذا اسمي العقاد..ذلك انه إذا ماكان من فرح في طفولتي ما قبل المراهقة بقليل فهو مصطفى العقاد...علىالاقل ايام العطل الاسبوعية..ولتوضيح الصورة..فقد كنت حزينة وانا اوشك أن أغادر طفولتي وحريتي في اللعب والخروج إلى الشارع وكانت تجربة أختي جعلتني اشعرانني مقبلة على حياة صعبة علي أن أتعلم فيها شؤون النساء وأتعود فيها على سمك وصمت الجدران أيام العطل عوض اقتراف لذة وحماقات اللعب.. لكن العقاد من خلال فيلم الرسالة رمى في ظنوني الحزينة فرحا جميلا ما زلت انتشي به كلما سافر بي الزمن إلى مدارج العمر..فقد احضروالدي من زيارة أروبية جهاز فيديو..كان مدعاة للفخر امتلاك هذا الجهاز زمنها لكن ماكان له من اهمية في نظري لولا العقاد، اذ بسبب حرص الأسرة على التدين لم يكن بوسعنا مشاهدة غيرالاشرطة الدينية والتاريخية وخاصة فيلمي الرسالة وعمر المختار...كل احد من تلك الشتاءات الباردة اسدل الستائر اضع شريط الرسالة في الفيديو استلقي فوق الأريكة المواجهة أتغطى بلحاف دافئ وأتتبع أحداث الرسالة... أحيانا كانت تنضم إلي بنات الجيران أو إحدى زائرات أمي... حين ينتهي الفيلم اختلي والمرآة وأردد تلك الحوارات وأنا استمتع بوقع الحروف العربية اللذيذ على لساني الامازيغي..كان لدي إحساس غريب باني انطق الكلمات كممثلة بارعة،وكثيرا ما حلمت أن أكون ممثلة فعلاامام كاميرا مغرية الأضواء، ولا انتبه إلا وأمي تقتحم الغرفة وتضبطني اردد :
(نحن بنات طارق إن تقبل نعانق وان تدبر نفارق... سنجعلها حفلا هذه الحرب...يا قريش احملوا سلا حكم ..دافعوا عن أموالكم محمد يهاجم أموالكم)
فتردد أمي( صلى الله عليه وسلم.).وتقرصني من أذني طالبة أن اكف عن تلك الحوارات التي يرددها النصارى داعية لي بالهداية مما أنا فيهغير أن أكثر من شاهد معي الفيلم هو جدتي، ربما كنت أحيانا أتعمد أن أضع الشريط فقط من اجل التسلية بردودها المضحكة وانفعالاتها فلم تكن تكتفي بالبكاء كما كنا نفعل نحن سرا بل كانت تبكي بشكل مفجع وكثيرا ما أغمي عليها وهي ترىمشاهد تعذيب الكفار للمسلمين ولسانها لا يكف عن الدعوات على الكفار الذين عذبوا بلال وهند التي اكلت كبد حمزة... حين كانت تشاهد اندلاع تلك الحروب كانت تدعوللمسلمين بالنصر وللكفار بالهزيمة كأن معركة تدور فعلا رحاها في تلك اللحظة وليس من قرون خلت !..ومع أن جدتي امازيغية لا تعرف اللغة العربية إلا أنها كانت تسترشد بالصور لفهم تلك العربية الضاربة في تخوم الفصاحة..أحيانا كنا نترجم لها فتسارع إلى القول إن الكفر واضح والإيمان واضح، جملة عادية استشعرها الآن ملغزة ملتبسة هل تعرف جدتي أن كل شيء أصبح غامضاالان !.ثم ان جدتي أصبحت انطلاقا من فيلم الرسالة تتصور أن كل المسلسلات والأشرطة ينتمي ابطا لها وجوبا إلى احد فريقين : فريق المسلمين وفريق الكفار فكا نت تسأل أين هم الكفار أين هم المسلمون في كل فيلم؟ وكان يصعب عليها أن تفهم أن المسلسل يمكن ان يكون فيه المسلمون فقط وحدهم كما في الأفلام العربية أو الاجانب وحدهم كما في الأفلام الأجنبية .ربما جدتي كانت لاتستسيغ أن يقتل مسلم بيد من يدعى الإسلام أيضا لكن ذلك يحدث الآن...ثم أن دهشتها كانت تكبر كثيرا حد الاحتجاج حين ترى ممثلا من الذين شاركوا في الرسالة ومات تحت التعذيب في فيلم آخروهو حي يرزق و يمثل فكنا نسمعها تقول في استغراب :
-هل يضحكون علينا..الموتى لايرجعون !
نعم الموتى لايرجعون ! انتبه الآن لذلك بشكل عميق جدا أكثر من أي وقت مضى
نعم سيطل العقاد خالدا بأعماله
وحيا في ضمائرنا وفي ذكرياتنا
نراه في فيلم عمر المختار..
في الرسالة..
في كل الأفلام الأخرى..
في وجه كل رجل عظيم....
لكن الموتى لايرجعون
كي يمنح لنا العقاد فرحا آخر يشبه صلاح الدين الأيوبي
يشبه صبيحة الأندلسية
يشبه عبقرية العقاد أو العقاد نفسه
يشبه كل الابطال العظماء
ولأنني لااحب رثاء الذين يموتون، لأنهم ربما ارتاحوا هناك في موتهم أكثر من ارتياحنا في حياتنا واقول :
وأنت وإن أُفردت في دار وحشة
فإني بدار الأنس في وحشة الفرد
لكني ارثي نفسي لأن أصابع القلب لم تعد تقبض إلا الخسارات والحزن وهل
يمكن أن توجد حياة بلا فرح ؟
من هنا أدين اغتيال العقاد..
أدين اغتيالي..
* أديبة من المغرب