أوثان "قديمة" في أدب "حديث"
أوثان "قديمة" في أدب "حديث"
عبد الله عيسى السلامة
الرموز الوثنية تملأ الأدب الحديث.. تتلامح في كل زاوية من زواياه.. تتراقص في كل أفق من آفاقه.. تطل من كل نافذة.. تبرز عند كل منعطف.. هنا.. وهناك.. وهنالك.. وثمّة..
لا يخلو ديوان.. ولا تكاد تخلو قصيدة، من وثن ما.. من وثن ذكر، أو من وثن أنثى –وليت اللغة تسمح لنا بتأنيث الوثن الأنثى، فندعوها (وثنة)-..
حيثما سرّح الناظر بصره – ناهيك عن المتأمل - وقعت عينه على وثن ما، من أوثان أمة ما.. فهنا يزمجر جوبيتر.. وهناك يتأوّه كيوبيد.. وهناك تتبختر إيزيس.. وثمة تبتسم عشتار.. ومن هذه النافذة تطل أفروديت.. وفي تلك الحانة يقهقه زيوس.. وغير هذا وهذي، وذاك وتلك.. ومن ورائها وأمامها.. ومن أيمانها وشمائلها.. أوثان أخرى.. أوثان شتى.. أوثان مرقومة.. أوثان منضودة.. أوثان منثورة.. أوثان منظومة.. أوثان.. أوثان..
يا للعجب! ما هذه المخلوقات كلها؟ إنها آلهة.. أجل آلهة.. آلهة يونانية ورومانية.. آلهة فرعونية وبابلية.. آلهة آشورية وفينيقية.. آلهة لكل أمة بائدة وبائرة.. ولكل أمة غابرة وحاضرة.
فأين تعيش هذه الآلهة الأوثان؟ وبم تتغذى؟ وكيف تمارس ألوهيتها..؟
إنها تعيش في دواوين الشعر الحديث.. في قصائده.. في أبياته.. في تفعيلاته.. في دواوين محمد، وعلي، ومحمود، ومصطفى، وعمر.. أسماء إسلامية أليس كذلك؟
وتتغذى بأفكار ومشاعر، وانفعالات وخواطر، وإحساسات وعواطف.. تفترسها، أو تقتنصها، أو تلتهمها، أو تزدردها، أو تختطفها.. من رأس محمد، أو قلب عليّ، أو وجدان محمود، أو نفس مصطفى، أو ضمير عمر.. لتبرز بعدئذ – أي الآلهة الأوثان - متبرجة زاهية، في أثواب بديعة من الصور والأخيلة والتراكيب والأوزان..
ولتلتقفها عندئذ، عقول الرجال والنساء، والفتيان والفتيات.. من أبناء هذه الأمة، التي ما تزال تتشهد أن الإله واحد، وأن كل إله سواه، هو زيف وسخف وضلال..
فلمَ؟ لمَ هذه الأوثان كلها؟ أو هذه الوثنية كلها؟ هذا سؤال، ثم: أين (هبل) و(اللات) و(العزى) وغيرها من أوثان العرب الجاهليين..
أين هذه الأوثان، من هذا المعترك الوثني الأدبي العجيب؟ وهذا سؤال ثانٍ.
ثم – مرة أخرى - من المسؤول عن حماية عقيدة المسلمين من التلوث والانحراف، وحماية عقول المسلمين من التشوش والاضطراب..؟ وهذا سؤال ثالث.
1 – فأما الإجابة على السؤال الأول: "لمَ هذه الأوثان.. أو الوثنية كلها؟" فهي ببساطة – أو تبسيط - على النحو التالي:
أ – لأن ثمة أنهاراً وجداول وشلالات.. من الكفر والوثنية، تتبع من ديار الوثنية الحديثة – بل القديمة المتجددة - أوروبا.. وتتجه –هكذا مصادفة، بلا توجيه! - إلى بلاد العرب والمسلمين.. لتسقي عقولهم "اليابسة" ونفوسهم (المجدبة) بمياه منعشة (دسمة) مياه الأدب العريق، والفن الرفيع.. لتخصب بواديهم القاحلة، وتخضّر، وتزهر.. لا لشيء إلا لوجه الإنسانية!
ب – لأن ديارنا الإسلامية لا تخلو –كما لا يخلو سواها- من كفرة أُصلاء، عريقين في الكفر.. كفرة ملاحدة.. كفرة زنادقة.. كفرة هراقطة.. لا يؤمنون بالله، وإن آمنوا به أشركوا معه سواه، وإن آمنوا بالإسلام، أرادوه عقيدة بلا شريعة.. وإن آمنوا بالشريعة أرادوها حسب أهوائهم.. وهذا الطراز من المخلوقات الضالة، موجود في صفوف الأدباء، كما هو موجود بين فئات المجتمع الأخرى، وحين يكون الأديب كافراً، فلا يُتوقع أن يفيض من قريحته الهدى والنور.
ج- لأن بلادنا لا تخلو – كما لا يخلو سواها - من ببغاوات، تقلّد ما تسمع من أصوات، دون وعي أو إدراك، أو علم بما تحمله هذه الأصوات، من معايير سامية أو متدنية، خطيرة أو ضئيلة الشأن، مؤمنة أو كافرة، عاقلة أو حمقاء..
وإذا كان إغراء التقليد في الحياة الاجتماعية قوياً، فإنه في مجال الأدب أشد قوة وأشد جاذبية، وعلى هذا، فإن دهاقنة الكفر الأدبي العريق، ليسوا مفسدين مضلين بأدبهم وحده، بل بأدب من يتأثر بهم ويقلدهم، من الهواة والشداة، كذلك، فإذا نضجت أقلام الهواة والشداة، وتمنكن من عقولهم الزيغ والضلال، صاروا – بعد اكتساب الشهرة - بؤر إشعاع وثنيّ أدبي، يقتبس من هداها –الهدى الشيطاني البائس- هواة وشداة جدد.. وهكذا..
د- لأن أكثر وسائل الإعلام في بلادنا، جعلت من نفسها محاضن لشتى أنواع الكفر الأدبي، والضلال الأدبي، والفسوق الأدبي.. المحلي من هذه الأنواع والمستورد.. فيها –أي غي هذه المحاضن- تفقس البيوض عن أفراخها الزغب، لتربّى بعناية وإتقان.. ثم لتصبح بعد أمد يسير، ديكة زاهية الألوان، منفوخة الأوداج، تتصايح فوق كل تلة وجدار..! كما يأوي إلى هذه المحاضن كل من هبّ ودبّ، وكل من طار ودرج.. من الأدباء والمتأدبين، المحسوبين والمنسوبين.. ليجدوا فيها الصدر الحنون، والثغر الباسم.. بشرط واحد فقطك هو "زيغ العقيدة؟ أو في أقل تقدير: فساد الخلق والضمير.
ونذكر هنا بقولنا "إن أكثر وسائل الإعلام كذلك" لا كلها، ولن نتصدى لتحديد نسبة الأكثرية، أهي ستون في المئة، أم سبعون، أم أكثر أم أقل.. لكنا نحيل المتشكك بهذا الكلام، إلى الركام الذي يملأ الأسواق الأدبية، ونطلب منه أن يرجع البصر، كرة أو كرتين.. ليرى كيف ينقلب إليه البصر بعد ذ1لك! أيرجع مشحوناً بملامح الآلهة الأوثان، أم مخضلاً بفيوض الهدى والإيمان؟!
2- أما الإجابة على السؤال الثاني: "أين هبل واللات والعزى.. وسواها من أوثان العرب الجاهليين، من هذا المعترك الوثني.."
فهي على النحو التالي:
أ – إن هذه الأوثان العربية (العريقة) مغيبة عن عمد وتصميم، لأسباب عدة أهمها:
أولاً: إن ذكر هذه الأصنام، أو التنويه بها، يكشف اللعبة تماماً، فيبدو الكفر واضحاً جلياً، غير مغلّف بأي غلاف لمّاع أو برّاق! فهذه الأوثان معروفة بأنها أوثان.. رموز شرك وضلال.. معروفة من خلال القرآن الكريم..! فكل من يذكرها، على سبيل الإعجاب، أو التقديس، أو الثناء، أو التعاطف معها، أو الاستئناس بها، أو الخشوع في معابدها، أو الاستمداد من فيوضها وبركاتها.. يفضح نفسه، ويكشف عن وجه الشيطان الكامن في أعماقه، ويحشره في زاويته الحقيقية – زاوية الشرك - التي يتحاشى هو وأمثاله الحشر فيها من خلال عمليات التمويه والمراوغة..
والغريب أن أكثر عناصر هذه الشريحة، هم من أدعياء القومية! ومنطق الأشياء يفرض عليهم الاعتزاز بأوثان قومهم، أكثر من اعتزازهم بأوثان الأجانب! لكن إذا عرف السبب بطل العجب! فأوثان قومهم محرمة عليهم بنص يتلوه أبناء الأمة صباح مساء.. أما الأوثان الأخرى فلم ينص عليها بأسمائها، في قرآن ولا سنة..! ولا يعرفها من أبناء الأمة إلى القلة.. وهذه القلة ليست من الطراز الذي يجيد حمل الهراوات الغليظة ويهوي بها على رؤوس الزنادقة قائلاً: "أفسدتم عقائد أبنائنا أيها الكفرة المارقون"!
أما الجهة المخولة بحماية عقائد الأمة تنفيذياً، فهي معذورة، لأنها مشغولة بمتابعة الفرق الرياضية الوطنية، المعول عليها أن تحقق انتصارات باهرة، ترفع رأس الوطن عالياً، في المباريات الدولية الخطيرة والحاسمة..!
ثانياً: إن مجاهرة الأديب بكفر معروف في مجتمعه، ينفر منه الناشرين، ناشري الكتب، وناشري الصحف والمجلات.. بمن فيهم ناشرو الكفر المزركش المموه.. الذين يحرصون على نجاح تجارتهم، وعلى نجاح "مهمتهم" في نشر الكفر المزركش المموه..
فليقدس الأديب (جوبيتر) و(عشتار) و(أفروديت) ما شاء.. فهذه آلهة لا يعرفوها إلا القليل! أما تقديس (هبل) و(اللات) و(العزى) فيؤدي إلى كوارث وأهوال!
ثالثاً: إن مجاهرة الأديب بتقديس هبل وأضرابه، في مجتمع مسلم، ستسقطه في نظر المحاضن الأدبية الوثنية، التي ستسارع إلى وصفه بالجهل والغباء، وبأنه (لا يتقن أصول اللعب)، وبأن تجربته (الأدبية) ما تزال فجة، ولا يستحق لقب شاعر أو أديب!
ومن لا يصدق فليجرب..
ب- والسبب الثاني لغياب الأوثان العربية، أو تغييبها، هو كونها أوثاناً (رجعية) متخلفة! لماذا؟ لأنها عربية محلية.. غير مستوردة.. وبالتالي فهي لا تمنح مقدسيها صفة (ظريف) أو (مثقف) أو (مبدع)! صحيح أن بعض الأوثان الأخرى الأجنبية، أقدم منها بكثير زمنياً! إلا أن هذا البعض القديم، ما يزال محل عناية واهتمام من الأمم التي عبدته قديماً، كالأمم الأوروبية، كما أن بعض هذا القديم، صار من جديد محل عناية وتكريم، من قبل الأمم الأوروبية –المهتمة بحقائق التاريخ ونفائسه ومكامن العظمة والعبقرية فيه - ولو لم يكن من آلهة آبائها وأجدادها!
3- وأما الإجابة على السؤال الثالث – وهو بيت القصيد.. و.. مربط الفرس - "من المسؤول عن حماية عقيدة المسلمين من التلوث والانحراف، وحماية عقولهم من التشوش والاضطراب"؟ فهي غاية في الأهمية والبساطة معاً..
فإذا كانت عقيدة الفرد المسلم، تمثل كل ذرة في كيانه، وكل نبضة في فؤاده.. وهي محور حياته كلها في الدنيا والآخرة، وهي بالتالي أهم لديه من أمه وأبيه، ومن صاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه.. ومن أرضه وداره ووطنه.. بل ومن نفسه ذاتها.. إذا كان ذلك كذلك، فإن حماية هذه العقيدة مسؤولية ملقاة على عاتق صاحبها أولاً.. إن استطاع أن يقاتل في سبيلها وجب عليه ذلك.. وإن اضطهد من أجلها، في أية أرض –ولو في وطنه- وجبت عليه الهجرة حفاظاً عليها.. هذا على مستوى الفرد المسلم في محيط كافر..
فكيف الأمر على مستوى الأمة المسلمة؟ ما واجب هذه الأمة، إذا تصدت مجموعة أو فئة من الزنادقة، لنشر الشرط والوثنية في صفوف أبنائها..؟ ما واجبها مجتمعة، وما واجب كل فئة وكل فرد فيها؟ ما واجب الحاكم والمحكوم؟ وما واجب الكاتب والأديب؟ وما واجب الجندي والشرطي؟ وما واجب العامل والفلاح؟ وما واجب المصارع والملاكم؟ وما واجب المتعلم والأمي..؟
ما واجب هؤلاء جميعاً؟ هل نجيب؟ لا.. فمن عرف واجبه فلا يحتاج إلى دروس من أحد.. ومن لا يعرف، فليعد النظر في فهمه لعقيدته – ولا نقول في اعتناقه لها - ففي الفهم الصحيح للعقيدة تكمن معرفة الواجب.. واجب حمايتها، أو.. الموت في سبيلها..