ابنتي المهاجرة .. لا تجزعي
ابنتي المهاجرة .. لا تجزعي
صلاح عبد العزيز*
خَطَ بنانُ أب رسالة إلى بناته المهاجرات بعد عشر سنين من خروجهن من أحب ديار الله إليهن ( بنغازي - ليبيا ) و لولا أن أهلها أخرجوهن منها ما خرجن.. رسالة قَمِينةٌ أن تُحفظَ بضياء من نور.. رسالة استعلى فيها العقل على عصف العاطفة.. مع أنه الأب المبتلى المكلوم.. ليس بابتعاد ابنة واحدة عن ناظريه .. بل إنهن ثلاث..شاءت حكمة المولى سبحانه أن يُتوجنَّ بجائزة قيمتها جنَّاتٌ عرضها السماوات و الأرضيين إن هُن استحضرنَّ عظيم النية و إخلاص القصد لتكون هجرة لله .. و بالله .. و في الله.
و لأن الرسالة مُفعمة بعبق صدق مشاعر أبٍ تفوح من عباراته روائح أشواق و حنين .. حرصت أن أقطُف َلكم بعضاً من رياحينها.. و أن أترك لكم شذا عبيرها .. و لكل مستنشق ذوقه.. و انتقل بكم إلى إحياء البث الأبوي : (( عندما انفرد بنفسي، لأتذكر الماضي.. كيف عِشتُ معكن صغيرات بريئات .. ثُم فتيات مؤدبات.. ثُم زوجات مؤمنات.. طائعات لله سبحانه و تعالى .. وطائعات لأزواجكن كذلك عن رضا و محبة..و إذا بشريط التواصل و الزيارات قد مر من أمامي عارضاَ رحلات الربيع و الصيف على البحر والتي لم ننعم بمثلها بعد سفركن خارج ليبيا...
آمنت بأنَّ الإنسان مُسير ، ثُم عليه أن يُسلمَ نفسه لقدر الله سبحانه مُختاراَ أفضل الظروف كي يعيش حياة سعيدة كريمة حسب المصير الذي آل إليه..
تذكرت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قد رزقه الله أربع بنات.. فرِح بهن و أكرمهن و أحسن تأديبهن متمنياً لهن سعادة الدنيا و الآخرة..
تزوجت زينب.. تزوجت بأبي العاص بن الربيع.. و مع نزول الوحي على أبيها بنور التوحيد ؛ تمسك هو بدين آبائه.. مما جعلها تتركه و تهاجر إلى المدينة المنورة.. و في الطريق رَوَّعها المشرك ( هبار بن الأسود ) و أفزعها .. فسقطت من على الناقة تلفحها رمال الصحراء الملتهبة، وأجهضت جنينها بسبب ذلك!! ثُم واصلت رحلتها منهكة مُتعبة شاحبة الوجه ..
و أخيراً أسلم أبو العاص و لحق بها .. و لكن لم تتم سعادتُها حيث تُوفيت بعد سنة واحدة.
تزوجت رُقية ( عُتبة ) و تزوجت أُم كُلثوم ( عُتيبة ) إبنا عبد العُزَّى بن عبد المُطلب عم النبي الذي ظل على الكفر بعد البعثة المحمدية ولشدة إيذائه لرسول الله لقبه الله في القران الكريم بابي لهب ، ،فطُلقتا و رجعتا إلى بيت النبوة..
و لو تُراجعن السيرة و تُحصين كم من مرة بكت بنات النبي - صلوات ربي و سلامه عليه – و كم لاقَين من تعبٍ و سُهدٍ و نكد لرضيتُن بالواقع و حمدتُنَّ الله على ما أنتن فيه من حياة سعيدة هنيئة.
ثم تزوجت رُقية مرة أخرى .. تزوجت بعثمان بن عفان رضي الله عنه . كان وسيماً ذا مال و له ماضٍ مشرف.. فرِحت و شكرت ربها.. شعرت بالسعادة تغمُرُها.. و لكن الاستقرار لم يدم، إذ هاجر بها عثمان إلى الحبشة بأمر من أبيها صلى الله عليه و سلم .
رُقَيةُ.. لم تُصدق أنها ستفارق وطنها و أمها خديجة و الأخوات و الأقارب و السكن و الجيران.. و في الطريق نظرت خلفها فلم تعد تر مكة، ثُم سمعت صوت الحادي و هو يتغنى بهذه البيات:
الأهل *** و الأوطان *** فراقهم *** صعب
لكنـه *** الإيـمـان *** فــداؤه *** القلب
والـروح *** و الأبــدان *** فليقبل *** الربُ
* * * * * فليقل الربْ * * * * *
بكت رقية.. بكت رقية.. بكت في حُرقة.. ثُم أسلمت أمرها لله.. و رفع الحادي صوته الجميل... و امتدت أعناق الإبل و هي تسمع الحداء يصل مداه إلى السماء.. صبرت رُقية و المؤمنات معها، و أيقَنَّ أن بعد العسر يُسرا.
سألت نفسي: هل بناتي مثل زينب ورقية و أم كلثوم؟ كلاَّ ثم كلاَّ! ما ابعد الثَرى عن الثُريّة.. و لكن الأجر سيكون مُضاعفاً إن شاء الله سبحانه ‘ن هُنَّ صبرن على لأواء الغربة ، و أطعنَّ أزواجهن، و داومنَّ على طاعة ربهن..
رجع المهاجرون من الحبشة بحراً ثم ركبوا الرواحل إلى مكة.. و في الطريق رأوا إخوانهم وهم يُسامُون أشد العذاب.. و تصل رُقية رضي الله عنها بيت أبيها ؛ وبعد أن تطمئن أنه بخير تتلهف لسماع صوت أمها و حبيبتها خديجة أم المؤمنين أجمعين.. وإذا بأم كُلثوم تُحيط بها.. و فاطمة تعانقها و الدمع ينهمر من المُقَل حزيناَ باكياً ناعياً لها وفاة أمها!! و يدخل أبوها محمد بن عبد الله ليضمها إلى صدره الحنون الذي اتسع للعالمين رحمة و حباً ... فبكت وصبرت و احتسبت فراق أُمها عند من لا تضِيع ودائعه. و يأذن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة ، و يلحق به عثمان و رقيةُ ابنته.. وهناك تُبتلى بفقد ابنها عبد الله بن عثمان بن عفان و هو في السادسة من عمره.. فما لبثت أن لحًقت به ذات الهجرتين رقية .. رضي الله عنهم أجمعين؛ و لَكُنَّ في بنات المُصطفى صلى الله عليه و سلم أُسوة حسنة.
و لَكُنَّ أن تسألن عن حال أم كُلثوم؟ دخلت الشِعبَ مع أبيها رسول الله ، و أُمها خديجة و فاطمة أختها.. جوعٌ و عطشٌ و إرهاب لمدة ثلاث سنين عجاف.. و أخيراً يطلب زهير بن أبي أُمية َ المخزومي –أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي – شق الصحيفة القاطعة للرحِم.. و يتقدم أبو طالب لشقها و لكنه يجد الأرضة قد أتلفتها إلا كلمة ( باسمك اللهم ) !!! على إثرها انتهى حصار قُريش للفئة المؤمنة.. و يشتد المرض بأم المؤمنين خديجة مؤذناً بعام حُزن تُفجع فيه أم كلثوم بفراقها.. ويأتي الإذن لرسول الله بالهجرة.. ويودع بناته إلى المدينة .. ثُم تلحق به أُم كُلثومَ و فاطمة.
و هناك تتزوج أم كُلثوم بعثمان بن عفان – بعد وفاة أختها رُقية – فيلقب بذي النورين. وفي العام التاسع الهجري تُسلم أُم كُلثومَ رضي الله عنها الروحَ إلى باريها بدون عقِب.
أما الحديث عن فاطمة رضي الله عنها فإنه يطول حتى لا تسعه المُجلدات.. .
شهِد الله أنني حاولت مسح دموعكنَّ بامكاناتي البسيطة .. يُعجبني المثل الذي يقول : ( من السهل أن تَذْزُفَ ألف دمعة.. ولكن من الصعب أن تَمسح دمعة واحدة ) . الكل يبكي أو يتباكى.. و لكن من حاول مسح دموع من يبكي عليه؟!إن صلة الرَحِم شرعاً تتحقق بالزيارة و الرسالة و الهاتف و الهدية ، و حماية ممتلكات المُهاجر..
المؤمن اليوم يعيش غُربة حتى داخل بلده!! لأن مُعظم الناس لا يُصََدِقون أنَّ هناك من هجر الكذِب و الحرام والمعاصي و خيانة الأمانة و أكل الربا و حقوق الآخرين و الطمع فيما عند الحاكم و الركون إليه...
((وفقكنَّ الله ... حفظكنَّ الله ... أ يّدكنَّ الله.)).
*جنيف - سويسرا