معادلة الفهم والتفهيم

عبد الله عيسى السلامة

معادلة الفهم والتفهيم

عبد الله عيسى السلامة

قال تعالى: (ففهمناها سليمان..)

للعلاقات بين الحقائق معادلات خاصة..

ولفهم هذه العلاقات معادلات خاصة كذلك..

ولعملية تفهيم العلاقات (نقل الفهم إلى الآخرين) معادلات خاصة أيضاً..

هذه أنواع ثلاثة من المعادلات لابد منها، في مواقف كعينة، وضمن أطر معينة.. وفي ظروف معينة..

وإذا كان النوع الأول من المعادلات، تغلب عليه صفوة الموضوعية، وشرطه الأساسي هو وجود عناصر خارجية (خارجة عن الذات): أشياء – أحداث – مواقف – ظواهر.. فإنه (أي النوع الأول) يعتبر المادة الأساسية، والميدان الفسيح، والأرضية التي لابدّ منها، لمعادلات النوع الثاني.

أما النوع الثاني (معادلات الفهم) فهو واسطة العقد، وهو عنصر الارتباط بين الحقائق ومعادلاتها، أو معادلات علاقاتها، من جهة، وبين عقول الآخرين من جهة أخرى.. وهو بهذا الاعتبار، أهم الأنواع الثلاثة – في هذا الصدد - وأقواها، وأخطرها، إذ عليه تتوقف مصائر القادة السياسيين والعسكريين، ومصائر المعلمين، والمفكرين، والفلاسفة، والأدباء، والمنظرين.. فالمعلم الذي لا يستطيع فهم الحقائق الموضوعية، والعلاقات التي تربط بينها، لا يستطيع نقل شيء منها إلى طلابه أو تلامذته، وسيكون بالتالي مصيره الإخفاق الذريع في مهمته.. وكذلك سيكون مصير الآخرين، من قادة القوى السياسية أو العسكرية أو الفكرية..

وإذا كانت هذه الأمور، بحكم القواعد المبدئية، أو البدهيات، من الزاوية الفكرية أو الفلسفية "فاقد الشيء لا يعطيه".. فإن ثباتها ووضوحها، لا يعفيان من التذكير بها.

لكن السؤال المطروح هو" إلى من يُوجه التذكير؟ إلى القادة فقط (قادة القوى العلمية والسياسية والفكرية والعسكرية..) بصفتهم وسطاء بين الحقائق ومعادلاتها، وبين العناصر التي يوجهونها ويقودونها؟ أم إلى العناصر الخاضعة للقيادة والتوجيه من طلبة علم، وجنود عسكريين وسياسيين، ومواطنين في دول؟ أم إلى العناصر القائدة والمقودة معاً؟

الواقع أن التذكير ينصبّ على أذهان الناس جميعاً، وبلا استثناء، إذ ليس ثمة إنسان ما، يعيش بمعزل عن الحقائق المنبثة من حوله، بما في ذلك الأطفال والمجانين.. إلا أن الأطفال الرضع، وذوي الجنون العنيف المطبق، يصعب عليهم استيعاب التذكير، لأن وعيهم للحقائق ضعيف جداً.. وما عدا هؤلاء، فكل يذكّر بما يطبق استيعابه..

وإذا كان هناك قادة مباشرون – كالأنماط الآنف ذكرها - وقادة غير مباشرين – كالعلماء الذين يتعاملون مع الحقائق دون أن يكونوا مكلفين بمهمة نقلها إلى الآخرين بشكل مباشر - وإذا كان هناك آخرون ليس لهم أي دور في القيادة.. فمعنى هذا، أن الأولى بالتذكير هم القادة المباشرون، الوسطاء الفاعلون، بين الحقائق وعناصرهم، المقودة والموجهة.. وتتسلسل الأهمية بتدرج نازل.. وهنا نقف، لنوضح بالأمثلة بعض ما ينبغي إيضاحه، فنقول:

إن السياسي الذي يقود الناس، أو يتصدى لقيادتهم – سواء أكان رئيس دولة أو رئيس حزب أو ما بينهما – إذا لم يستوعب الحقائق المحيطة به بشكل ممتاز أو جيد أو مقبول نسبياً، أو استوعبها استيعاباً مغلوطاً أو ناقصاً أو مشوهاً.. جر نفسه وغيره –بقرارات فاسدة- إلى مهالك لا يعلمها إلا الله.. لأن قراره الفاسد، إنما يبنى أساساً على استيعابه الفاسد أو الناقص للحقائق والعلاقات القائمة بينها.. هذا إذ لم يجد حاجة إلى إفهام عناصره بما يقرر ويفعل.. أما إذا كان مطالباً بذلك، وتصدى لإفهام الآخرين أموراً لم يفهمها هو، أو فهمها بشكل شائه فاسد أو ناقص، فهو في بلاء أشد، إذ سيشوه عقول الآخرين –إذا كانت مؤهلة لذلك التشويه- أو سيجد من بعضهم قبولاً أعمى، ومن بعضهم قبولاً فاسداً مائعاً، ومنن بعضهم معارضة ورفضاً قد ينقلبان إلى تمرد.. وتمزق..

فما الذي يقوّم هذا ويصلحه؟ الشورى.. وأية شورى؟ الشورى المبنية على استعداد عقلي ونفسي للتنازل عن مبدأ "احتكار الصواب".. وبغير هذا، تصبح الشورى – إذا بنيت على توهم العصمة - ضرباً من التواضع المزيف، والتسجيل الرخيص للمواقف على حساب المصلحة العامة، وإرضاء الآخرين من (كيسهم) وبمعنى أدق: تصبح الشورى نوعاً من الضحك على الذقون.

هذا بالنسبة للقائد السياسي.. فما الأمر بالنسبة للمقود؟

المصيبة هنا أخف، ما دامت في الإطار الفردي الضيق.. فقد يستوعب جندي ما بعض الحقائق بطريقة ناقصة أو فاسدة أو شائهة، ويتوهم أن الحق كله يكمن في جعبته (إزاء ما فهمه من حقائق- وينطلق إلى قيادته فرحاً بما فتح عليه، من (بوابات) الإلهام، ويبدأ بالمناقشة والمناظرة والجدل.. حتى يتعب ويُتعب، ثم ينصرف –راشداً أو غير راشد- وهو يندب حظه العاثر، لأن عبقريته الفذة لم تجد من يقدرها حق قدرها.. ولأن الآخرين، ابتلوا بعدم الفهم، وما عليه إلا أن ينتظر قيام الساعة، لأن الأمر قد وسد إلى غير أهله.. دون أن يخطر في باله –في كثير من الأحيان- أم ما فهمه من حقائق أو علاقات، قد يكون مخالفاً لأبسط قواعد الفهم السليم.. أو أن قدرته على (تفهيم) الآخرين بما يريده منهم، غير كافية، أو لا تؤهله للتصدي للمهمة التي انتدب نفسه لها، طائعاً، مختاراً، مخلصاً، غيوراً، حريصاً على المصلحة العامة..

وهنا تتسلسل مراتب الأشخاص من حيث القدرة على الفهم والتفهيم..

فأولها: من لديه حدّ أدنى من القدرة على الفهم وعلى التفهيم.

وثانيها: من لديه حد أدنى من القدرة على الفهم دون التفهيم.

وثالثها: من لا يمتلك الحد الأدنى من فهم ولا من تفهيم..

وواضح أن النمط الثالث هو أسوأ الأنماط، وهو –مع الأسف- أجرأ الأنماط –في كثير من الأحيان- على التصدي لمناقشة الأمور..

وهنا يختلط الضحك والبكاء في مركب معقد، هو أقرب إلى فلسفة "اللامعقول" منه إلى حياة الناس الطبيعية السوية.. إذ المعروف أن الضعيف بدنياً لا يتصدى لحمل الأثقال الضخمة، والضعيف مالياً يعرف حدود إمكانياته ويقف عندها.. فلم لا يقف الضعيف عقلياً عند حدود إمكاناته ويتصرف بحسبها؟ هنا يكمن سر من أسرار الله في خلقه، هو أنه كلما أوغل المرء في الضعف العقلي، أوغل في ادعاء الفهم والذكاء.. حتى إذا وصل إلى مرتبة الجنون، وجد نفسه العاقل الوحيد في الدنيا..

وهذه المعادلة الطريفة، هي مع الأسف، من أكثر المعادلات انتشاراً في دنيا الناس، ومن أشدها تأثيراً في مصائر الأفراد والجماعات.. ولله في خلقه شئون.

أما مركبات النقص المرضية، التي تدفع أصحابها إلى توهم العصمة لأنفسهم، أو إلى احتكار الصواب، فهذه نافذة أخرى من نوافذ البلاء.

وإذا كان القادة السياسيون، لاسيما قادة الأحزاب والجماعات، يعتبرون بلاءً حقيقياً على أحزابهم وأممهم، إذا كان فهمهم للحقائق دون المستوى الجيد أو المقبول نسبياً.. أو إذا كانت قدرتهم على تفهيم عناصرهم ضعيفة –بالنسبة لأسباب اتخاذ قرار ما، أو بالنسبة لخط السير.. أو غير ذلك –فإن كثرة النماذج التي لا تعرف ما يراد منها ولا ما تريده داخل حزب أزو دولة، تعتبر كارثة كذلك، لأنها لا تعمل ولا تدع غيرها يعمل.. وفي هذا من البلاء ما فيه..

وإذا كان ما ذكرناه ينطبق على التجمعات السياسية – من قيادات وجنود - فهو ينطبق كذلك – وبنسب متفاوتة بتفاوت الوظائف والمهام - على الجيوش – قادة وجنوداً - وعلى المؤسسات التعليمية والثقافية.. وغير ذلك.

وعلى هذا، فإن كان الناس غير مطالبين بأن يكونوا أذكياء جداً، أو أذكياء، فهم مطالبون – في الحدود الدنيا - أن يختاروا لأنفسهم قادة أذكياء جداً، أو أذكياء.. ولا يكفيهم في هذا المجال، أن يدعي المرء لنفسه الذكاء حتى يختاروه قائداً، وإلا وقعوا في فخ المعادلة المعكوسة (كلما أفرط في الغباء أفرط في ادعاء الذكاء).. فمعادلات الحياة شديدة التعقيد، لا تفلح العقول المسطحة في فهممها، ولا في إفهام الآخرين شيئاً منها..

كما أن من عبقرية القائد، أن يعرف كيف يختار الجنود الأذكياء، ويترك الأغبياء لتلتقطهم الأحزاب المعادية، فيحطموها من داخلها.. فيكتفي شرها بأقل جهد وأيسر مؤونة.. هذا على افتراض أن إخلاص القائد لحزبه أو مؤسسته أو لبلده أقوى من إخلاصه لنفسه.. وإلا انعكست الآية، وبدأ بتجميع الأغبياء ليبني على أكتافهم أمجاداً رخيصة لنفسه، تزول بزواله، ويزول قبله وقبلها، كل العمل بكل ما فيه ومن فيه.. ونعوذ بالله من سوء المنقلب.

وهذا ينطبق كذلك، على قادة الدول والجيوش الذين يختارون أعوانهم من الأغبياء لمجرد كونهم إمعات..

وغني عن البيان، أنه كلما كانت الظروف صعبة، كان أحوج إلى إبعاد الأغبياء عنه، كيلا يزيدوا ظروفه صعوبة، ويحملوه من الأعباء مالا يطيق.. ويجروه إلى كوارث ومآسٍ لا تخطر له على بال..

وفي الدول التي تعتمد التعددية الحزبية ويكون الحزب عقائدياً، فهذا إنما يزيد من مسؤولية قادته في تجنب ظاهرة البلاهة أو البلاغة أو الغباء، بل يضاعف هذه المسؤولية أضعافاً كثيرة، تتناسب مع ضخامة الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتق الحزب، خارج السلطة وداخلها، سواء بالنسبة لتهيئة الحزب وإعداده لخوض أنواع الصراعات والأخطار، أم بالنسبة لإعداده لتسلم السلطة وتغيير البنى والعلاقات السائدة في المجتمع.

أما الأحزاب المصلحية "التجمعية" فالخطب فيها أيسر، والبلاء أخف.. إذ صوت الغبي وصوت العبقري متعادلان في انتخابات المجالس النيابية.. ولا شيء يحتاجه النائب بعد ذلك..

ولابد من التذكير هنا، أن الحديث إنما هو عن فرد في حزب.. أما الفرد في الدولة فله شأن آخر، إذ له حقوق وعليه واجبات، وفقاً للنمط القانوني أو الاجتماعي أو المالي الذي يضم أمثاله..

أما قضايا: الإخلاص، والأخلاق الكريمة، والتضحية والإيثار.. وغيرها، فلها شأن آخر، إذ ليس كل مخلص ذكياً، ولا كل ذكي كريم الخلق.. وهي قد توجد عند الذكي والغبي على السواء.. والتصدي لاحتكارها، لا يقل سماجة عن التصدي لاحتكار الفهم أو الذكاء.