ثقافة الالتحاق .. هزائم لا تنتهي

ثقافة الالتحاق .. هزائم لا تنتهي

محمد السيد

قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون التوبة _ 33 _

تلك الهجرة المستمرة إلى هناك .. ! تعرفونها ..؟ إنها تبتغي الالتحاق بما يدعونه بالشروط التاريخية للنصر ..! تتطلع إلى أفق موسوم منذ البدء بعناوين الهزيمة ، وذاك هو العجز بعينه ، إذ تحوطه عيون الغزو ، وتتسلح أهدابه بادعاء التبصر والتحديث ، و الخروج من شرنقة الأزمة .

دعاة على أبواب الهزائم ، امتلكوا جُلَّ القول بفعل فاعل ، مدخول النية ، مأزوم الحياة ، يحمل في طيات جلده كره الحُرِّ . إنه يفسح في المكان والزمان لمن يرفع صوتاً منسوجاً على عينه ، لا يستطيع أن يخرج من جحر الالتحاق ، إلا ليدخل إليه من كوة أخرى : " حتى إذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه .. " فهو مدين لمن قدمه مفكراً أو منظراً ، ورفع قامته ، وأعلى صوته ، وأدخله ساحة ضجيج الإصلاح بصوت يدعي فقه المشروعية الوطنية المنقذة ، ليقدمها ضمن الأفق ممسوح الهوية ، ذلك الذي رسم عليه الفاعل مدخول النية خرائطه المتماهية مع لعاب أطماعه ، ورؤى غزواته الوحشية ، المدهونة بزبدة المرايا المتعاكسة ، حيث نرى _ نحن المقصودين باللعبة _ خيالنا ممتداً إلى ما لا نهاية في صور تتباهى سحناتها بدخان التحديث الموهوم المهزوم لأنه سراب صنعة الفاعل ، كي يغتر بمائه المنفوخون بالإدبار عن النظر المتدبر في خزائننا الملأى بأساسات راسخة تصلح للانطلاق الآمن الذي يشكل قضية كل مؤمن يحمل في قلبه نداء : " هذا بيان للناس " ويخزن في نفسه أمل : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " .

و إنك لتجد الواحد من هؤلاء الالتحاقيين لا ينظر أبداً تحت قدميه ، ليرى ضالته المنشودة ، بل إنه يظل مشدود البصر والعقل ، مبهور الفؤاد والبصيرة ، يتسول الحل من رؤية مَنْ ظل طوال قرن يوقع به كي يظل مهاجراً ، وجهته الهاوية التي حفرت له ، وهو يظن أن في السقوط النجاة : (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .. )) . فقد دخل هذا وأمثاله في حومة معركة التكنولوجيا المعلوماتية ، التي أطلقوا عليها هناك : ( القوة اللينة ) ، بدون سلاح ، واستسلموا للقوي الذي يمتلك كل أدوات المعركة وأسرارها ، وهم لا يعلمون أن هذا القوي ، يبتغي تذويب التصميم الجماعي في الأمم ، ثم هدم إرادة النهوض، لينقض هو من موقعه المهيمن على كل البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، داخلاً من خلال الثغرات التي أحدثها في جدار المناعة الجمعية بعد أن فككها إلى أفراد ، أوهمهم بأنهم أشياء ذات قيمة تقدمية ؛ إذ يدبرون ، ولا يلوون على شيء من مكتنزات الأمة العامرة بشتى الأطايب ، تلك المكتنزات التي تشكل قاعدة فذة يمكن استيعابها وإدخالها وإدخالنا بقوة في تيار الحياة الزاخر ، بعيداً عن التقوقع وضيق الأفق أولاً ومن ثم الكف عن الهجرة الدائمة غير السديدة السبل ، الملوثة أبداً بأدواء العجز والدونية و الانبهار ، تنطلق من شنشنة نعرفها خارجة من جوف أناس مثل د. الصرّاف الكويتي الذي وضع نفسه موضع الناصح الأمين في

إحدى الفضائيات ليقول : ليس لنا إلا أن نفعل كما فعلت أوروبا فنفصل الدين عن الدولة كي ننهض .

هذا مثال أول عما يريده الالتحاقيون بنا ، وإليك المثال الثاني : وهو كلامٌ لأحد دعاة الإصلاح في سورية ، نُشر في الموقع الالكتروني " كلنا شركاء " يوم 19 / 6 / 2004 يقول فيه بالحرف : " لقد كتبت غبّ سقوط بغداد مقالاً دعوت فيه حزب البعث لتغيير مرجعيته الفكرية الكونية ، من المرجعية الثورية الانقلابية الشرقية إلى المرجعية الدستورية الديمقراطية الغربية ، والانخراط في تيار الاشتراكية الديمقراطية العالمية ، أي أن نواجه هزائمنا ليس بالانكفاء والتشرنق ( و التأسلم ) ! . بل بمزيد من الانفتاح والحداثة والانخراط في قلب العالم للسير على طريق امتلاك الشروط التاريخية التي قادته للنصر وقادتنا للهزيمة " .

فهذا الإصلاحي و الذي قبله وأمثالهما لم يجدوا أمامهم إلا الجحر نفسه سبيلاً للنجاة ، " فالخروج من المرجعية الثورية الشرقية والدخول إلى المرجعية الدستورية الغربية ، عملية تتم في داخل الجحر نفسه ، تزيل لافتة ، لترفع أخرى ، و لكن ضمن عملية الهجرة الدائمة ، والتسول المستمر بلا تحفظ وبلا انتقاء .. إنها عملية تغيير الطرابيش ، المهم فيها أن يُبعَد الإسلام وحاملوه عن دائرة البناء ، وذلك كما رسم _ المعلم _ الذي يريد لهذه الأمة أن تظل تدور في نفس الدائرة المغلقة التي دخلتها منذ مئة عام ونيف ، بدأتها بنبذ وحدتها إلى انتماءات عرقية وطائفية ، ثم ثنَّت بإبعاد قرآنها وشريعته عن مسار الحياة العامة ، ليتطور ذلك إلى مسار الحياة الخاصة أيضاً ، وذلك كله تحت شعار وغطاء عملية النهضة والتحديث والانفتاح ، والأخذ بما أخذ به الغربيون من فصل بين الدين والحياة .. غاضين الطرف عن الفروق و المفارقات الكامنة بين كنيسة في الغرب أوقفت مدَّ الحياة، وقننت القمع العلمي والسياسي والاجتماعي ، وبين دين كان السبب في استمرار وجود هذه الأمة حتى اللحظة .. فلما بدأت تفارقه إلى جمودٍ على القوالب خالٍ من الاستيعاب والتوظيف العصري للأساسات ، متطلعة إلى علمانية متوحشة وحداثة مهاجرة ، وتحديث بلا روح ولا أساس ؛ سقطت في بوابات الهزيمة . وهو ما نود أن نشير إليه بوضوح لنقول : إن امتلاك الشروط التاريخية للنصر الذي كان في الخروج من قوقعة الكنيسة عندهم ، لا يمكن نقله إلينا أبداً .. بإبعاد ديننا عن الحياة ؛ لأن في هذا الإبعاد تكمن أسرار هزائمنا.. منذ سقوط الخلافة و نشوء الدولة القطرية ؛ التي أرادت أن تأخذ بشروط النهضة عند الآخر فامتلكت بذلك الدولة القطرية صفة الالتحاق بالآخر عن جدارة . و هي ما تزال تقودنا بذلك مع النخب التي بادلتها ذلك الاعتقاد بالالتحاق و نبذ الأسلمة حتى أوصلتنا إلى امتلاك شروط الهزيمة تماماً كما أرادها الآخر .

وأخيراً : فإنه لا يحق إلا الحق ، ولن نرى نور النهضة والقوة إلا بهذا الدين الذي لا يهزم أبداً .. (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) ، وهذا هو الرأي .. والله أعلم .