ثغر.. والنفير عام
ثغر.. والنفير عام
فاطمة محمد أديب الصالح
أعترف أني لما نصحت أول مرة بالاستماع إلى تسجيلات في التنمية البشرية لمتخصص معروف، صرفني عنها أنْ غلبت العامية على حديثه، ليس لأني لا أفهم كثيراً من مفردات لهجته المحلية فحسب، بل لأني توقعت أن يستغل وأمثاله هذا المنبر لنشر الفصحى، فهي من المعاقل الأخيرة التي تسعى العولمة إلى دكّها في النفوس قبل الألسنة.
ثم اخترت سماع آخرين، في الحقل نفسه، يستخدمون الفصحى.. لكني وجدتهم أقلَّ اهتماما بضبطها واستخداماتها السليمة، من اهتمامهم بتوثيق معلوماتهم وأخبارهم.
وبعد عامين من العزوف، عدت إلى تلك التسجيلات التي تغلب عليها العامية، وأفدت كثيرا منها، لماذا؟
لعلي بدأت(وهذا خبر غير طيب) آلف سماع العامية بعد أن كنت شديدة النفور من ذلك.
* * *
إن الغاضبين على العربية اليوم، العاشقين للغات الأجنبية، دعاة العامية والتغريب عموماً، أحسنوا الإفادة من تجارب أسلافهم، فلم يلجؤوا إلى طرح دعواتهم جهارا.. بل وجدوا الفعل أبلغ وأجدى..
لقد أنكرت غالبية المثقفين العرب والمسلمين دعوات سلامة موسى وسعيد عقل وغيرهما، ممن أرادوا التنكر للفصحى وأحيانا للعربية كلها، تلك الدعوات التي استمرت إلى ما بعد منتصف القرن الميلادي الماضي، بدعوى التسهيل تارة، واللحاق بركب أوروبة تارة أخرى..
اليوم تحارب العربية بطريقة أكثر فاعلية وذكاء: فمن شكوى من جمودها( المزعوم) إلى تذمر من قواعدها وضبطها بالحركة، ومن مقارنات بلغات أخرى أبسط بنية وأسهل تناولا..إلى خوف(بريء) علينا من التخلف عن ركب العلم الذي يسيطر عليه وينتجه ناطقون بغير لغتنا! حتى ألفت في ذلك كتب تدعي الغيرة عليها.. فيما تدعو إلى نسف بنيانها من الأساس!
لكن الأخطر من هذا كله هو الفعل..
الفعل يوفر عليك بسط الحجة ويغنيك عن كل قول: ننشئ بعدد متزايد المدارس (العالمية) ذات المناهج(الأقوى) المقدمة بالإنجليزية.
نقدم الإعلان بالعامية مقروءاً أو مكتوبا على الشاشات ونواصي الشوارع المزدحمة، ونخاطب ضيوفنا في الإذاعة والتلفاز بالعامية.. نقدم لنشرة الأخبار بالعامية، إن لم تقدم النشرة نفسها بالعامية، فـ.. ننشر العامية، ونجعل الفصحى غريبة على السمع ثقيلة على اللسان..ثم القلب، ونفقد الصلة بالكتاب العربي إلا لضرورة.. ويصعب تواصلنا من بلد عربي إلى آخر(ألا تتمنى أحياناً أن تفهم ما يقال في محطة جزائرية أو تونسية!).
لقد كان القوميون العرب من دعاة العربية المتحمسين جداً لها، وكانت غيرة المسلمين على العربية أشد، فهي لغة الرسالة التي خاطب الله بها العرب ابتداء ليعلن تفرد هذه اللغة وجدارتها.
اليوم وقد تراجعت فكرة القومية، وانشغل المسلمون العرب بصد أنواع شتى من العدوان عليهم، أو بتضميد جراحاتهم وطلب النجدة.. ما جعل حديث اللغة والثقافة يبدو أقرب إلى الترف(وليس كذلك).. ماذا نفعل؟
إن معرفة العربية رزق عظيم، لا بد من الغيرة عليه والدفاع عنه، ومن هنا أجد أن كل متقن للعربية محبٍّ لها، إنما هو على ثغر يطالب بالدفاع عنه، ثم توسيع رقعة الأمان حوله.
لا تستهن بأي حقل أنت فيه، أظهر غيرتك على العربية، شجع كل من كان في دائرة اهتمامك وتأثيرك على التمسك بها ومحاولة إتقانها مثل أي مهارة أخرى تسعى إلى امتلاكها.
نحن في زمن الفعل والتطبيقات والإجراءات.. ولا جدوى من المحاضرات والحجج النظرية، مالم تتبعها أفعال تريد التغيير.
اللغة هي الثقافة، والثقافة هي الهوية كما قال العلامة اللغوي ناصر الدين الأسد.
الاستهانة باللغة استهانة بالهوية.. والحرب عليها حرب على الهوية..سلبك هويتك أشبه بسلبك ثيابك التي تسترك وتدفئك وتلائمك.
وبالنسبة للمسلم بعامة، والعربي المسلم بخاصة: العربية دين!