الحرب الثقافية
الحرب الثقافية
م. صالح عبد الله الجيتاوي
من جملة مآخذ أنصار حملة التغريب والتذويب الصليبية الجديدة على أمة الإسلام بعامة وعلى رواد فكر الصحوة الإسلامية بخاصة، أنهم لا يخططون ولا يبرمجون وإنما تنحصر جهودهم في ردود الفعل لأحداث العالم المؤثرة، فهم دائماً سطحيون، مرحليون، شعاراتيون، ظواهر صوتية لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما نموذجهم الغربي العلماني –إلههم المعبود- لا يفعل شيئاً إلا ضمن برامج متناغمة متكاملة مدروسة ضمن استراتيجية بعيدة المدى تعدها المطابخ المختصة التي تضم أفضل العقول ويقع تحت تصرفها كل ما تحتاجه في النواحي المادية والعلمية والأمنية والتكنولوجية.
حسناً، فلماذا إذن كلما أردنا أن نربط بين ما يجري في فلسطين والعراق والسودان وموريتانيا وكشمير وأفغانستان وإندونيسيا وباقي أرجاء الوطن الإسلامي، وقلنا إن وضع المسلمين أفراداً وشعوباً وأوطاناً تحت المجهر ضمن طوق الحصار والقمع والتغريب والتذويب، وقلنا إن الصدفة وحدها لا يمكن أن تصنع كل هذا التناسق والتماثل –أساليب وأهدافاً- في جغرافية واثنية ومذهبية ظاهرة، ولا في تكامل حلقاتها وترابطها بإشاراتها ورموزها ودلالات مواقيتها ومصطلحاتها، بادرت الجهات إياها ومرجعياتها إلى قذفنا بتهمة الاستسلام لأوهام نظرية المؤامرة التي لا وجود لها وتحولت الأمم المتهمة إلى أمم مكشوفة البرامج والأهداف، إنسانية الرسالة، لا تحتل بلداً إلا لتحرير شعبه المستعبد من جلاديه، والقضاء على ظاهرة الفقر بتحديد النسل، ورد الاعتبار للمرأة بتفكيك كل أسيجة الحماية الفطرية والاجتماعية والخلقية من حولها، وتحقيق رفاهية الإنسان بتفتيح عقله وحواسه وإمتاعها بلا حدود ولا ضوابط، بعد استنزاف طاقاته الطبيعية والبشرية بأساليب حديثة، بمشاركة عادلة لمصلحة الطرفين الصديقين، وبمباركة الأمم المتحدة ميزان العدالة الوثيق في هذا العالم!!!
السؤال ونقيضه تبقى مشروعة ومقبولة قبل أن يطلع السائل والمجيب على واحد من أهم ما قذفت به المطابع في العالم بينما كان القرن العشرون يلوح بكفه مودعاً (1999م) وأعني به كتاب (الحرب الباردة الثقافية – من الذي دفع للمزمار) تأليف فرانسيس ستوتر سوندرز البريطانية المولودة سنة 1966م.
ولمن كان يبحث عن كتاب أكثر إثارة وتشويقاً من أعظم رواية في العالم أقول: ستجد ضالتك في هذا الكتاب المدهش ابتداء من صفحة الغلاف الأولى إلى الصفحة الأخيرة، مروراً بكل فقرة أو سطر من هذا الكتاب الذي ترجمه "طلعت الشايب" لحساب المشروع القومي للترجمة بمصر، وتقع الترجمة في 457 صفحة من القطع الكبير، بالإضافة إلى 53 صفحة مخصصة للهوامش والمصادر والببليوغرافيا مما يدل على ثراء وعمق ودقة وصدقية هذه التجربة الفردية الإنسانية المتميزة، والتي تؤكد بالأسماء والأماكن والتواريخ والأرقام كل ما يخطر على بال أنصار نظرية المؤامرة ليس إلا نقطة في بحر الحقيقة.
لقد غاصت المؤلفة في بحر من الوثائق والأرشيفات في أوروبا وأمريكا (بخاصة بعد الإعلان الأمريكي عن حرية الحصول على المعلومات) حكومية وغير حكومية، وقابلت المئات من الشخصيات خلال رحلة بحث استمرت بضع سنوات قبل أن تخرج هذا السفر النفيس.
لست بصدد تقديم الكتاب أو استعراضه، وإنما مجرد الإشارة إليه لمن شاء الوقوف على أطراف الحقيقة وملامسة أمواجها الرهيبة العجيبة، ويكفي أن أنوّه إلى أن ال C I A –حسبما ورد في الكتاب- أنشئت أصلاً لتتولى الجانب الثقافي من الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي بعد الفروغ من المعركة مع النازية، وكيف كانت هذه المنظمة الأخطبوطية ذات الإمكانيات غير المحدودة تنشئ المؤسسات والتنظيمات والجمعيات والشركات والصحف تحت مختلف الأسماء لاستخدامها كواجهات لتحقيق أهدافها إلى جانب الاستعانة بالبنوك والمؤسسات المالية العملاقة، من خلال أشخاص موثوقين متفهمين لرسالتها لتحويل خططها أو على الأقل لاستخدامها كقنوات لتوصيل الأعطيات لعملائها، وكيف كانت تقيم المهرجانات والاحتفالات وتنشئ الجوائز لتجنيد الأسماء اللامعة في مجالات السياسة والأدب والفنون المختلفة.
إذا كان هذا هو الحال في مواجهة المعسكر الشيوعي العملاق، المشهود له في الميادين الأمنية المخابراتية، والذي لم يصمد في النهاية أمام زحف وضربات المؤامرات الغربية، فكيف يكون الحال عندما تتوجه هذه الحملة وبمشاركة المعسكرين، وبما استجد من إمكانيات تكنولوجية، إلى عالم ضعيف مفكك واهن الجسد، غير قادر على مقاومة أي نوع من الفيروسات المهاجمة.
ليس ضرورياً أن يكون كل فرد في القطيع مبرمجاً وعالماً بما يجري حوله، وإنما يكفي تكوين عدد من الرموز والواجهات وتلميعها لتأخذ مداراتها، ومن ثم تنجذب إليها كل الهباءات والريش المتطاير، ومخلفات الزمن الرديء في هذا الوطن الموسوم بالإسلامي.
وبعد..
إذا أتيحت لك –عزيزي القارئ- فرصة دراسة هذا الكتاب، ومن ثم سارعت إلى حمل مصباح (فرانسيس ستونر) لاستكشاف ما يقبع في قعر عيون نبلاء ثقافة التغريب من أسرار، فلا تسأل متى وأين وكيف وقعت الجريمة، يكفي أنك أصبحت تعرف من الذي يدفع للزمار.