أنا والحمام الأمريكاني..

أنا والحمام الأمريكاني..

بقلم : د. جابر قميحة
[email protected]
وبدأت أتخلي عن الإعجاب

ما رأيت حمامة تتخبتر علي رقعة خضراء في أية مدينة أو قرية مصرية, إلا وتذكرت حكاية لي غريبة مع الحمام الأمريكاني, كنت أيامها أعيش في مدينة «نيوهافن» بولاية «كنكتكت» بالولايات المتحدة .
ومعروف أن كل مدينة أمريكية فيها ما يسمي بالـ(جرين). والجرين ميدان واسع جدًا, تفرشه الخضرة الدائمة وتتناثر فيه مقاعد رخامية أو خشبية لجلوس الجمهور, وعلي أحد جوانب «الجرين» - أو في وسطه - كنيسة ضخمة, ولكن أهم ما يشد النظر هذه الأعداد الضخمة من الحمام الذي يغلب عليه اللون الأزرق اللامع. وهو حمام ألوف يقترب منك في دعة وأمان, ويتناول الحَب من يدك إذا بسطتها له, ورأيت بعضهم يضع الحب علي كتفيه, فيحط عليهما الحمام لالتقاطه.
وبدأت أتخلي عن الإعجاب   وبدأت أتخلي عن الإعجاب كنت أعيش بمفردي في الشقة الصغيرة التي أنزلتني بها جامعة (يلٍ (YALE) التي أعمل بها, وأقوم بكل ما أحتاج إليه من طبخ وكنس وغير ذلك. وأمرّ علي «الجرين» كل يوم مرتين: في طريقي من مسكني إلي الجامعة, ومنها عائدًا إلي مسكني. وذات يوم دار في نفسي حوار داخلي: لماذا لا أمتع نفسي بوجبة من لحم هذا الحمام الذي لا صاحب له حتي لو كان القانون الأمريكي يحرم صيده وأكله?
وبدأت أتخلي عن الإعجاب بالخضرة, ونظافة الشوارع, وجمال الطبيعة, وصرت أسير فكرة واحدة اسمها «الحمام المشوي».
وبدأت أتخلي عن الإعجاب   وبدأت أتخلي عن الإعجاب وفي صباح سبٍت من شهر ديسمبر سنة 1981 (والسبت والأحد عطلة أسبوعية في أمريكا) توجهت إلي «الجرين» ومعي حقيبة من قماش, وحفنات من الأرز, وكان الميدان خاليًا تمامًا, جلست علي أحد المقاعد الرخامية.. اتجهتٍّ عشرات من الحمام إليّ.. نثرت حب الأرز حولي, وقرب قدميّ.. فتحت «سوستة» الحقيبة القماشية لاستقبال الحمام الموعود.. اقترب الحمام مني إلي درجة الالتصاق.. بدأ لعابي يسيل أمام الصور الخاطفة التي مرت أمام مخيلتي: سفرة.. أطباق.. حمام مشوي.. و.. و... وأفقت من خيالي العارم.. وانقضضت بيديّ علي أقرب الحمام إليّ.. وللأسف!! لم أقبض إلا علي هواء.
طار الحمام بعيدًا عني, وحط علي الجانب الآخر البعيد من «الجرين». لزمت مكاني من المقعد الرخامي في انتظار عودة الحمام.. دون جدوي. غادرت «الجرين» وسرت في الشوارع الجانبية. وعدت إليه بعد ساعة, وجلست علي مقعد بعيد جدًا عن مقعدي الأول. ونثرت ما بقي معي من حبات الأرز أمامي وحولي, ولكن حمامة واحدة لم تقبل عليه.. عجبًا!! مع أن أغلب هذا الحمام لم يكن مما تعرّض لهجمتي الأولي. هل للحمام لغة وظفها الحمام الأول في تحذير غيره من الحمام? أم قرأ الحمام أعماقي وسريرتي, واكتشف نيتي العدوانية, فظل بعيدًا عني?!!
وبدأت أتخلي عن الإعجاب   وبدأت أتخلي عن الإعجاب طال بي الانتظار بلا فائدة.. حملت حقيبتي القماشية الفارغة, وبقايا أرزي.. وخيبتي.. ميممًا شطر مسكني, وبعد أن سرت عدة خطوات, نظرت فجأة إلي المكان الذي تركته, فإذا بالحمام يهجم علي ما نثرت من أرز في نهم.
وبدأت أتخلي عن الإعجاب   وبدأت أتخلي عن الإعجاب مضي علي هذه الواقعة ثلاثة وعشرون عامًا. واليوم أسأل نفسي: لو ذهبت إلي «الجرين» اليوم, أيقبل الحمام عليّ وعلي ما أنثره من أرز? الواقع الحالي يقول: لا, فقد تحولت كل حمائم الولايات المتحدة إلي بوم, وصقور, وغربان والفضل للإمبراطور «بوش». عدو الاسلام والمسلمين والعرب والحق والحقيقة 0