على شاطئ الأمل !..

على شاطئ الأمل !..

بقلم : ابنة الحدباء

وقفتْ تراقبُ قرصَ الشمسّ وهو يتوارى ما بين السُحبِ السوداء وأمواجِ البحر الهائِج.. حيث لاحَ في الأُفق البعيـــــدِ مزيجٌ من تناغم الألوان الرماديّةِ المحمرّة، التي افترشت البّر والبحر حاملةً معها باقاتٍ من النجوم المتلألئة، وترانيمٌ تُطرِبُ الأسماع بأصواتِ عودةِ الطيور والنوارس إلى أعشاشها.. وبهديرِ أمواجِ البحر المتلاطم عندَ أعتاب تلك  الصخرة العملاقة المطلّة عليه، حيث كانت تقف هناك فتاة تتدثّر بوشاحٍ أبيـــــــض ..

تطلُّ بشموخٍ متأمّلةً منظر الغروب وغرقِ الشفقِ الأحمر وانسدالِ خيوطِ الليلِ وأجواءٍ تنذر بقدوم العاصفة!...

كانت لوحةً يسطّر فيها الشعراء أبياتاً من الشعر، ويخطُّ الفنانون بريشة الرسّام صورةً تحمل الأمل مع مرارةِ الخوفِ من المجهول.. الفراقَ مع اللقــاء.. الموتَ مع الحياة.. الرحيلَ مع البقاء.. ورهبةً تجلل النفس مع شكٍ يزلزل الكيان وإن تخلّلها شعاعٌ من اليقيـــــــنِ.. وشعلةً من بقايا الشمس وهي تمنحُ الدفء لكلِّ قلبٍ عليلٍ يئنّ من همومه القابعة فيه، ويهمس بصمت : إنني ما زلت على قيد الحياة!..

لكن على الرغم من صفير الرياح وهي تقذفُ بالموجِ هنا وهنـــــــاك حاملةً معها ذرات المياه المالحة.. إلاّ أنهـــا بقيت متسمّرةً في مكانها!...وكأنًّ صمتاً مهيباً يجللها، وأشباح الموت تحيط بها!.. تحدّق إلى لا مكان وكأنّ العالم بمعالمه ينتهي هناك.. تحدّق بذهنٍ شاردٍ يحطُّ في البيداء تارةً، وفي حدائق غنّاء تارة أخرى!.. يهفو إلى لا مقرّ، لأنه دوماً اختار التحليق، كاسراً قيد جفاء الواقــــع وقلة الحيلة.. وسلاسل من النــــــــار.. ويعلو إلى مكانٍ أزليٍّ لا يصله البشر..
تبسّمتْ حينما لاح قاربٌ صغيرٌ وهو يصارعُ الموجَ العالي، ويُرخي أشرعته، ويحاربُ من أجلِ الوصولِ إلى بـــــــــرِّ الأمــــــــان.. يتمايلُ يميناً وشمالاً.. يَختفي تارةً ويعلو تارةً أخرى فوق الأمواج وكأنَّه يسـائِلُ الريـــــاحَ ويرجوهـــــــا أن تهدأ من غضبتهــــــــا.. والمياهَ لتركنَ إلى سُكونها.. والسماءَ للعودة إلى صَفائِها..
تدثرَّت بِوشاحها وأزاحت خصلات شعرها عن عينيها.. لتشهدَ فنَّ السباق ما بين الاحتضار والشَوق إلى الحيـاة.. ما بين التصميم على المضيّ قُدمـاً أو اليأس والغرق في اليمّ الخانق ورفع راية الاستسلام!..

عجبتْ لقدرة البحّار وهو يصارع رياح السموم ويحمل أشواق الأمل في الوصول إلى شاطئ البرّ، وكأنه يُمنّي النفسّ أنه سيلمس تراب الوطن قريباً وإن طالته الأخطـار وعصفت به رياح البُعد وكثرة الترحال..
كادت أن تلوّح بوشاحها وتصرخ قائلــــة: لقد قاربتَ على أن تلمسَ الثرى وتصل إلى شـواطئ الأمـل.. فلا تفقد الدفّـة أبداً في لحظةِ يأسٍ أو شكٍ.. سواء في قدرة الله على إجابـــة الدعاء ساعة العسر.. أو فقدان اليقين في قدرة الذات على أن تقتحمَ الصِعاب وتُصارع الموتَ أو التسليم دون قِتالٍ إلى آخر رمـق.. وتطرق أبواب الاحتضار.. فالأمـل إن تطاول سيبقى واحــــة المعذّبيــــن وملاذ المحرومين، وشعاعاً يخترق زجاجَ القلب ليمنحَ مرسىً للسفن المهاجرة، وجسراً يجتاز أنهار النار وهشيمها الحارق لمن أراد العبور إلى المرافئ الآمنـة، وغُصن زيتونٍ قد شقَّ طريقه وسط غابة من الأشواك الجارحـــــة، وغيثـــــــاً يتساقط على رمال الصحراء العطشى القاحلة!...

ما هي إلا لحظاتٍ حتى لامسَ القارب الشاطئ وأرسى مرســـــــاه.. وبانت تباشير الأمــــــــل.. ثم خرج وكأنه كان في ساحة نِزال وهو يردّد عبارات الحمد و الثناء لفضل الله ونِعَمِه.. وتبسّمت هي الأخرى، وكأن نسمات الأمـــــــل لفحتها وأنعشت قلبهـــــــا، فرفعت بصرها إلى السماء وتمتمت : صدق الله تعالى في قوله : " إنّ مع العُسرِ يُسـراً.. إنّ مع العُسرِ يُسـراً "..

عادت أدراجهـــــــا وهي تحمل بين جوانحها أملاً إلى الغد، متمتمةً بأبياتٍ ترسّخت في ذهنها منذ أن قرأتها وهي تقول:

الـشمسُ والبدُر من أنوارِ iiحِكمتِهِ
الوحشُ مجّدهُ والطيرُ iiسبـــّحهُ
والنملُ تحت الصخورِ الصمّ قدّسهُ
والناسُ يَعصونَهُ جهراً iiفيستُرهُـم



 
والبرُّ  والبحُر فيضٌ من iiعَطايـاه
والموجُ كبَّرهُ والحوتُ iiناجـــاه
والـنَـحل يهتفُ حمداً في iiخَلاياه
والـعـبدُ يَنسى ورَبي لَيس يَنساه