بِدون مساعدة الـ"مَشيّاح"

بِدون مساعدة الـ"مَشيّاح"

فؤاد سليمان

قبل يومين وجدت نفسي أجلس بجانب النافذة وأقرأ كتابًا. أذكر أنني وضعت الكتاب جانبًا وبدأت أسترجع ذكريات الأيام التي تعلمت فيها موضوع السينما في جامعة تل أبيب. إحدى الحوادث التي حصلت معي يومها بدت لي أكثر وضوحًا من غيرها، حتّى أني تخيّلتها وكأنها مشهد سينمائي. كنت جالسًا في القطار، عائدًا إلى حيفا بعد يوم تعليم مرهق، وإذا بفتى يهودي متديّن يلبس "الكيبا" يأتي ويجلس بجانبي. بدا الشاب لطيفًا، حيث كان ينظر من خلال النافذة وعلى وجهه ملامح التأمل والهدوء. نظرت اليه ورحت أتساؤل بيني وبين نفسي عما كان يدور في ذهنه، ثم بدأت بالحديث معه عن أمور مختلفة. كان لطيفًا وأجابني بصدق. أتت على بالي فكرة فسألتهً: "هل هنالك إمكانية أن يأتي المسيح الموعود، الـ"مشيّاح"؟ فأجابني قائلا "بالطبع، فإن الـ"مشيّاح" الموعود لا بد آت، عاجلاً أم آجلاً". سألته: "وهل هنالك إمكانية بأن تكون أنت المسيح الموعود؟". في تلك اللحظة أبتهج وجهه وقال: "أنا؟!...أنا الـ"مشيّاح"؟!!، لا..لا، هذا غير معقول. أنا لست الـ"مشيّاح"، لأن على الـ"مشيّاح" أن يجد كتابًا سريًا بعثه له ربّنا في الصحراء، وأنا لم أجد كتابًا كهذا".

إن فكرة الـ"مشيّاح" التي تبلورت في الثقافة العبرية، هي فكرة تزرع في نفوس الأطفال روح المنافسة. كلّ واحد من هؤلاء الأطفال يبدأ بالتفكير "ربما أنا هو المشياح؟" و"ما الذي عليّ أن أفعله لكي أصبح المشيّاح؟"، وهذا أمر غير صحّي على مستوى الشخصية الفردية والاجتماعية.

في إحدى ورشات العمل في تل أبيب، حيث كنتُ أدرس، قام أحد الطلاب بقراءة سيناريو هزلي لطيف يصف وضعًا يكتشف فيه الشعب الاسرائيلي أن الـ"مشيّاح" هو عربي. لو تحقق هذا فإنه سوف يكون أمرًا في غاية الطرافة. بحسب ذلك السيناريو فإن الـ"مشيّاح" سوف يأتي ويبدأ بصنع العجائب، لكن المشكلة هي انه عربي إسرائيلي وأسمه "أحمد أبو رزق"، وهو شاب من الناصرة. هل سيتقبل أبناء الشعب اليهودي هذا الـ"مشيّاح" العربي؟ هل سوف يعبدونه؟ أم سوف ينكرونه؟ لو كان لديّ مليون شاقل لكنت راهنت بها على الإمكانية الأخيرة.

في إحدى زياراتي إلى تل أبيب، صادفت فرقة موسيقية كانت تعزف في الشارع أغنية اسمها "الـمشيّاح لا يأت". الأغنية تواصل فتقول: "المشيّاح لا يأت، والمشيّاح حتى لا يتصل عبر الهاتف". ما تقوله الأغنية عن أن الـ"مشيّاح" لن يأت ولن يتصل هو عين الصواب، ومع ذلك، فما أكثر ما نرى من الشخصيّات غريبة الأطوار من المتديّنين اليهود، الذين يطلون من حيث ندري ولا ندري، مدعين بأنهم هم، وليس سواهم، الـ"مشيّاح" الموعود! الانطباع الذي يبقى لدى المرء من هذه الظاهرة الغريبة هي أن شعبًا بأكمله يجلس في انتظار "سوبرمان" خاص به، بدلا من أن يقوم ويتقلّد مسؤولية أفعاله ويسعى نحو مستقبل أفضل، من دون مساعدة مرتجاة من "مشيّاح" لن يأتي ولن يكلّف خاطره مشقّة الاتصال والاطمئنان.

لو سنحت لي الفرصة أن أرى ذلك الصبي المتدين اليهودي الذي صادفته في القطار، لكنت نظرت إليه بشيء من الاستغراب وسألته: "يا صبي، هل وجدت ذلك الكتاب السري في الصحراء؟"، "هل ما زلت أنت تبحث عن المشيّاح"؟، ولفكّرت بيني وبين نفسي: أن الـ"مشيّاح" لن يأت ولن يتصل، وأن من الأفضل لي أن أعيش دون انتظار مساعدته.