هكذا علمتني الحياة

هكذا علّمتني الحياة..

أنّ الحرام مهما كثر يفنى ويزول

وأنّ الحلال مهما قلّ فإنّه يبقى ويدوم

بقلم اللواء الركن/ محمود شيت خطاب

بنى أحد ولاة الموصل على عهد العثمانيين جامعاً ضخماً في حي: "باب الأبيض" من مدينة الموصل.. ولايزال ذلك الجامع قائماً حتى اليوم، وخصص الوالي لذلك الجامع شيخاً من الشيوخ ليكون إمام الجامع وخطيبه.

  ولما اكتمل بناء الجامع، وأصبح عامراً بالمصلين، سأل الوالي يوماً من الأيام شيخ الجامع:

"ما عسى أن يكون لي من أجر عند الله تعالى لقاء تشييدي هذا الجامع الكبير؟".

  وأطرق الشيخ إمام المسجد طويلاً، ثم قال للوالي:

"لابد لي من مراجعة الكتب لأستطيع أن أقدم لك الجواب".

  وضرب الشيخ للوالي موعداً أن يحضر المسجد مساء اليوم التالي ليسمع جواب سؤاله.

  ولم يكن الوالي مستقيماً في عمله ولا نزيهاً، وكان ظالماً قاسياً، يصادر أموال الناس ظلماً، ويحب المال حباً جماً، ويكتنزه حلالاً وحراماً!!.

  وقدم الوالي إلى الجامع في الموعد المضروب وهو يتوقع أن يسمع من الشيخ ما (يحب) لاما (يجب) أن يسمع، وذهبت به أمانيه كل مذهب، فعاد إلى الشيخ مستبشراً مساء اليوم الموعود،

مؤملاً أن يفضي إليه بالجواب الذي يشرح الصدر ولو إلى حين.

  وكان الشيخ من علماء الرحمن.. لا من علماء السلطان.. وكان ذلك الوالي يطربه سماع ثناء علماء السلطان، فتوقع أن يسمع ثناءً جديداً كالمريض الذي يريحه المخدر ولا يشفيه.

  وأخذ الشيخ بيد الوالي إلى باب الجامع، ووقفا جنباً إلى جنب، وكانت الشمس في ذلك الوقت تنحدر رويداً رويداً إلى المغيب.

  وكان سكان حي باب الأبيض (باب البيض) من مدينة الموصل يقتنون الأبقار والأغنام في بيوتهم، وكانوا يوكلون أمر رعايتها إلى أحد الرعاة الذي كان يأخذها من أصحابها صباح كل يوم ويعود بها إليهم قبيل غروب الشمس، ويقضي ساعات النهار في رعيها في مراعي الموصل الغنية بالأعشاب في السهول والهضاب والوديان.

  وكانت تلك الأبقار والأغنام لكثرة ما تخرج من دور أصحابها صباحاً، وتعود إليها قبيل حلول الظلام قد ألفت طريقها إلى دور أصحابها وعرفتها..فهي تخرج منها وتعود إليها بغير دليل.

  وأقبل الراعي يهش بعصاه على أبقاره وغنمه وهي في قطيع كبير، والشيخ والوالي يقفان على باب الجامع يتجاذبان أطراف الحديث، والراعي يهش على قطيعه وهي فرحة بالعودة إلى حظائرها، فانطلقت الأبقار والأغنام إلى أصحابها، وعاد الراعي إلى أهله يتوكأ على عصاه.

  وابتسم الشيخ الوقور وهو يرى القطيع ينفض عن الراعي ليلحق بدور مالكيه، فيعود الراعي إلى أهله وحيداً، وقال للوالي والابتسامة تضيء وجهه الوقور:

"مثلك عند الله في جزاء ما أنفقت في بناء هذا الجامع كمثل هذا الراعي فإذا كان لك شيء في القطيع من الأبقار والأغنام،عدت بها إلى أهلك، وإلاّ تفرقت أبقار وأنعام القطيع، وعادت كل واحدة منها إلى دار صاحبها، وعدت أنت صفر اليدين".

  وازدادت ابتسامة الشيخ اتساعاً وإشراقاً، وازداد وجه الوالي تقطيباً وعبوساً وعاد الشيخ إلى مسجده لصلاة المغرب، وعاد الوالي إلى بيته غضبان أسفاً!!.

  وفهم الوالي أنّ أجره عند الله في بناء الجامع هو بمقدار ما قدمه في بنائه من ماله الخاص الحلال.. أما ما قدّمه من ماله الحرام فيعود أجره إلى أصحابه يوم تعود الحقوق إلى أهلها ذاتياً يوم الحساب.

  كان اسم هذا الشيخ الجليل عليه رحمات الله "داود الكرحة" الذي توفي سنة 1344  هـ ( 1925م) فشيّعته الموصل كلها إلى مقره الأخير، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً.. لأنّه كان من علماء الرحمن .. لامن علماء السلطان، وهطلت عليه الرحمات من أفواه المشيعين كأنها شآبيب الأمطار في يوم مطير.

  لقد أثرت هذه القصة الواقعية في نفسيتي منذ كنت طفلاً، وكنت ولا أزال وسأبقى أذكرها وأذكر حكمتها: المال الحلال خير وأبقى.

  وقد تأثرت في حياتي العملية بثلاث قصص من الواقع، أرويها كما حدثت ببساطة.. لكنها على بساطتها أثرت فيّ تأثيراً لا تمحوه الأيام، وسيبقى تأثيرها معي ما بقيت على قيد الحياة!!

  وهدفي الأول والأخير من روايتها هو العبرة لمن يعتبر.. لعل الله يفيد بها غيري من الناس.

  أما الأولى: فقد حدثت يوم كنت طفلاً في الخامسة من عمري على أكثر تقدير.. فقد طرق باب دارنا فقير من الفقراء، فأسرعت جدتي التي كانت ترعاني إلى الباب، ثم عادت مسرعة إلى غرفتها بدون ثوب، فأخرجت من خزانة ثيابها ثوباً آخر، وأنِسَت به، وهي تحمد الله وتشكره وتثني عليه.. وقالت:

ـ كان الفقير في أسماله يرتجف من البرد القارص، فخلعت ثوبي وكسوته به، ففرح بالثوب فرحاً عظيماً، ومضى إلى سبيله شاكراً ممتناً فرحاً، وهو يجهش بالبكاء من الفرح الغامر لا من الحزن الشديد!!.

  ومن يومها عزمت ألاّ أردّ سائلاً..فإذا عجزت عن معونته بالمال، أكرمته بما يتيسر من لباس أومتاع أو طعام، وإلاّ صرفته بالحسنى معتذراً منه، على نية أن أقدم له ما أستطيع في موعد قريب.

  وأكرمني الله سبحانه وتعالى بما لاأستطيع وصفه وبيانه، وحسبي أن أذكر أن فضله كان عليّ عظيماً.. فما احتجت إلى شيء مادي أبداً..وما ضاقت عليّ الأمور إلاّ وجعل الله لي من أمري مخرجاً، ومن عسري يسراً، ورزقني من حيث لا أحتسب.. ولقد حوربت في رزقي مراراً، فظنّ الذين حاربوني أنني سألجأ إليهم محتاجاً.. ولكنني لم ألجأ إلاّ إلى الله وحده، وكان الله يعوض عليّ فوراً، ويرزقني من حيث لا أحتسب .

  وقد يسد البشر باباً من أبواب الرزق.. فإذا وثق المؤمن بالله ، ولجأ إليه فتح له أبواباً للرزق، وصدق الله العظيم:

 (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)(1).

  أما القصة الثانية، فحدثت يوم كنت في العاشرة من عمري، تلميذاً في مدرسة "باب البيض " الابتدائية بالموصل الحدباء.. فقد اختار مدير تلك المدرسة عدداً من تلاميذ كل سنة من سني المدرسة من الذين كان آباؤهم من ذوي اليسار والغنى، وطلب من كل واحد منهم مبلغاً صغيراً من النقود لشراء الدفاتر والأقلام والكتب المدرسية والثياب لأحد التلاميذ المعوزين في المدرسة.. وكان ذلك الطالب الفقير قد قرر أن يقطع دراسته وينقطع عن المدرسة نهائياً..لأن أهله عاجزون عن سد نفقاته المدرسية، فحرص مدير المدرسة على أن يوفر له ما يحتاج إليه من نفقات مدرسية، ليستأنف دراسته كزملائه التلاميذ في المدرسة كالمعتاد.

  ولم يذكر مدير المدرسة اسم التلميذ الفقير المُعدم ولكن اسمه لم يبق سراً.. بل انتشر اسمه بين التلاميذ، وبخاصة التلاميذ المطالبين بجزء قليل من المال لسد نفقاته المدرسية الضرورية المعتادة. 

  وما كانت الدولة يومها مسئولة عن تغطية نفقات الدراسة للدارسين، ولكن التعاون الوثيق بين أولياء أمور التلاميذ والطلاب في مختلف المراحل التعليمية من جهة، وبين إدارة المؤسسات التعليمية والمعلمين والأساتذة من جهة أخرى كان يغطي تلك النفقات.

  فقد كان المعلم معلماً وأباً لتلاميذه، وكان الأستاذ أستاذاً وأباً لطلابه، وكانت إدارات المدارس والمعاهد والكليات تقوم مقام المعلم والأستاذ من جهة، ومقام الأب والأخ والأهل من جهة أخرى، وكانت الدنيا بخير، يجد فيها من يضعف عن إكمال دراسته من يواسيه ويعينه حسبة لله تعالى، فلا يضعف ولايشقى.

  وطلبت من والدي عليه رحمة الله حين عدت إلى البيت أن يدفع لي المبلغ الصغير من المال لأقدمه لمدير المدرسة الابتدائية صباح اليوم التالي، وذكرت له أن المبلغ يضم إلى المبالغ الأخرى من التلاميذ الآخرين لينفق إلى فلان ابن فلان الفقير العاجز عن إكمال دراسته لفقر أهله الشديد.

    وأطرق الوالد ملياً حين سمع اسم التلميذ واسم أبيه واسم عائلته، واستغرق في إطراقه. حتى خيل إلي أنه أخذ لنفسه إغفاءة، وظننت به الظنون، ثم رفع رأسه متنهداً وقال لي:

" قبل عشرين سنة تقريباً كنت في زيارة جد هذا التلميذ الذي ذكرت اسمه، وكنت برفقة جدك لأمك أستاذي وشيخي، وكان جد هذا التلميذ يشغل منصباً رفيعاً مرموقاً في الحكومة القائمة بالموصل.. ولكنه كان يستغل منصبه لمنفعته الشخصية.. لالمنفعة الدولة والناس.

  وفي ذلك المجلس في ديوانه الكبير الغاص بالزائرين من علماء ووجوه انطلق جد هذا التلميذ على سجيته، يحدث زواره عن القرى والأملاك والمنافع التي أصبحت ملكاً له في الموصل وما حولها، ثم قال:

ـ الحمد لله.. لقد أمنت مستقبل أولادي وأحفادي وأبناء الأحفاد.. فإذا متّ فسأرحل قرير البال على معيشتهم بنعمة وترف وثراء!!.

  وتنهد الوالد تنهداً عميقاً وهو يخرج كيسه ويسلمني ما طلبت منه من نقود، فتسلمت النقود واستقرت في جيبي، وارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة.. لأن مدير المدرسة سيرضى عني.. ولكن والدي استأنف حديثه معي فقال لي:

" وهذا هو حفيد ذلك الجد الذي جمع ماله من الحرام، يجمع له المدير هذا المال.. لأن والده افتقر بعد غنى.. وذل بعد عز.. لأن ماله الذي ورثه عن أبيه مال حرام..  ولو كان حلالاً لما أتلفه الله سبحانه وتعالى بهذه السرعة وهذا الوقت القصير !!".

  وسكت والدي طويلاً، وكنت ساهماً أتدبر كلماته: مصير المال الحرام، ثم قطع عليّ تفكيري بقوله:

" هذه نقود إضافية ادفعها للمدير أيضاً، والحمد لله على المال الحلال ".

  ولاتزال كلمات والدي ترن في أذني كل ساعة وكل يوم: .

"الحمد لله على الرزق الحلال"

كأني أسمعها منه في هذه اللحظة، وقد مضى إلى جوار ربه قبل سنوات، وسمعتها من قبل ستين سنة تقريباً.. وكلما مرت السنون بأحداثها ازددت يقيناً بهذه الحكمة:

"الحمد لله على الرزق الحلال".

  بل ازددت إيماناً بحكمة جديدة بعد أن تبدلت النفوس، وتضاعف تكالب الناس على المادة.. فقد علمتني الحياة أن المرء الذي يريد أن يصون شرفه من أن تنهشه الألسنة التي لا تخشى الله، وتخوض في أعراض الناس، عليه ألاّ يبتعد عن المال الحرام فحسب.. بل عليه أن يبتعد عن كثير من المال الحلال أيضاً ليصون شرفه وعرضه في الدنيا.. وهو بحرمان نفسه من الحلال لايكاد ينجو بشرفه وعرضه إلاّ بشق الأنفس!!.

  أما بركة الاقتصار على الرزق الحلال فهي نعمة عظيمة تشمل الأهل والولد، والحاضر والمستقبل.. وهي حماية وضمان.. ولكن يا ليت قومي يعلمون.

  أما القصة الثالثة التي تركت عبرتها الباقية في نفسي فقد حدثت يوم كنت في العشرين من عمري.. حيث كنت ضابطاً صغيراً في مقتبل حياتي العسكرية، أعمل طالباً في مدرسة الفرسان ببغداد.

  فقد عرضت للبيع أرض للأوقاف النبوية على الضباط والموظفين بثمن بخس، وجرى تعميم هذا العرض على الضباط وأصحاب المناصب العليا من الموظفين، فتسلمت نسخة من هذا العرض.

  كان ثمن المتر الواحد من تلك الأرض الوقفية عشرة فلوس(قرش واحد)، وكانت الأرض قريبة جداً من أبنية بغداد وأسواقها وقلب العاصمة، وكان باستطاعة الضابط أن يتملك من تلك الأرض آلاف الأمتار ببضعة دنانير يدفعها أقساطاً.

  وحملت هذا العرض في ورقته الرسمية إلى والدي، فقرأ العرض، وتوقعت أنه سيفرح به.. ولكني رأيته قد تمعر وجهه، واتَّقد غضباً لله تعالى، ثم رمى العرض بوجهي قائلاً:

" يا ولد!! هذه الأرض أوقاف نبوية لاتباع، وهذه الورقة لاتحلل ولاتحرم، ولاينجيك كاتبها والآمر ببيع الأرض من عذاب الله.. إنها نار..نار.. فحذار أن تدخلها".

  ولم أكن في حينه أعرف الأوقاف ولا الأوقاف النبوية بل لم أكن قد سمعت بأنها حلال أو حرام.. فابتعدت عن شراء قطعة من تلك الأرض التي أصبحت بعد سنوات قليلة قصوراً ضخمة، وبقيت أتنقل من دار مستأجرة إلى مثلها تسمى: داراً في التعبير المجازي لبساطتها وقدمها وضيق مرافقها وحرمانها من الشمس والخضرة والهواء النقي، ولأنها صغيرة المساحة.

  ولكن فرحة الذين تملكوا تلك الأرض لم تطل، لأنهم احترقوا بنارها، فقتل قسم منهم،  وأعدم آخرون، وسحل بعضهم، ومات عدد منهم في الغربة بعيدين عن قصورهم مشردين مطاردين،

ووقع البلاء على ذرياتهم، فمرضوا أو أصيبوا بسمعتهم وأعراضهم، ولاتزال لعنة تلك الأرض تلاحق ذراريهم حتى اليوم.

  وقد أصبح ثمن المتر الواحد من تلك الأرض خمسمائة دينار، فما انتفع الذين اشتروها ولا ذريتهم بغلائها. وهل ينتفع بالمال أهل القبور؟!.

  وحملني الخوف من نار الأوقاف أن أدافع باستقتال عن الأملاك الموقوفة.. وقد حدث أن استولت إحدى المؤسسات الحكومية على أرض موقوفة وتصرفت فيها،فرفعت معاملة الاستملاك إلى المراجع العليا للموافقة على الاستملاك وتقرير الثمن المناسب.

  وكانت المؤسسة التي استملكت الأرض الوقف قد أصبحت بإمرتي، وكان المفروض أن أدافع عن مصلحة المؤسسة الحكومية ووجهة نظرها في الاستملاك والتصرف بين الزملاء..

ولكنني لم أفعل..

  كان الزملاء في حينه معي قلباً وقالباً.. لأنهم ينسجمون في الدفاع عن مصلحة الحكومة وحدها دون مصلحة الناس.. ولأنهم ـ غالباً ـ لايفرقون بين الأرض الموقوفة وغير الموقوفة.. بل لا يعرف أكثرهم عن الأوقاف الإسلامية شيئاً مذكوراً، وكان المسئول عن الأوقاف معي أيضاً، فكان الجو السائد ملائماً لاستملاك الأرض الموقوفة أو نهبها لقاء دراهم

معدودات، وكانت المؤسسة الرسمية التي أصبحت بإمرتي قد استملكت الأرض وتصرفت فيها قبل أن أكون مسئولاً في الدولة.. فهل يتم استملاك أرض الوقف على مسئوليتي بثمن رمزي

زهيد، وأتقبل الاحتراق بنار لم أكن من دعاة إضرامها ولا أرضى بإضرامها؟!!.

  ووقفت معارضاً الاستملاك بثمن بخس، وطلبت إعادة تقدير ثمن الأرض من جديد ليصبح ثمنها كأمثالها تماماً، فارتفع سعرها أربعين ضعفاً، لأن سعر المتر المربع قُدِّر أول مرة بربع

دينار، وقدر في المرة الثانية بعشرة دنانير.

  واستغرب الزملاء من موقفي المعارض لمصلحة المؤسسة التي بإمرتي ومصلحة الحكومة..

والمفروض أن أكون المدافع الأول عن تلك المصالح.. وما ذكروا أن كلمة والدي خطرت ببالي في أثناء مناقشة الاستملاك.

  وكانت تلك الكلمة تصرخ بشدة في أذني:

" هذه أوقاف نبوية .. إنّها نار..نار.. نار.."!!.

  وهربت من النار التي كادت تحرقني.. ولكن الله سلم!!.

  وبالطبع كان الزملاء الذين أرادوا استملاك أرض الوقف بثمن بخس، والزميل المسئول المباشر عن الوقف الذي تسامح بالاستملاك يظنون أن ذلك يرضيني وأنني راغب فيه..ولكن خاب ظنهم حين وجدوني معارضاً لهم لا منسجماً معهم دون أن يعرفوا سر معارضتي التي اعتبروها شذوذاً لا مسوّغ له !!.

  واليوم أكشف عن سر معارضتي لذلك الاستملاك، بعد أن كتمته أكثر من عشرين سنة، ليكون عبرة لمن يعتبر، بعد أن أصبح أكثر أولئك الزملاء في جوار الله، وبعد أن يئست من تولي المناصب الحكومية، أو هي يئست مني على أصدق تعبير..وما أسعدني في حياتي والحمد لله..فأنا في نعمة سابغة عظيمة أحمد الله عليها وأشكره صباح مساء.

  إن الناس الذين يظنون أن السعادة تكون بالثراء العريض والمناصب الرفيعة والجاه المزيف

مخطئون كل الخطأ، أو مغرر بهم كل التغرير..

  فالمناصب والمال والجاه ليست كل شيء في هذه الحياة الدنيا .. وبخاصة إذا جاءت بشكل أو أسلوب غير مشروع.

  بل إن المال الحرام والمناصب والجاه وغيرها من متاع الدنيا الزائلة التي تقتنص بأساليب غير مشروعة أو تؤخذ غلاباً واغتصاباً ليست إلاّ شقاءً دائماً، وعذاباً مقيماً، لأن السعادة تكون في راحة الضمير، واطمئنان النفس.. وهما ثمرتان يانعتان من ثمرات الحلال لامن دغل الحرام.

  والذين يغترون بمظاهر السعادة للأغنياء وأهل السلطان والجاه العريض واهمون.. فرُبَّ سعيد في مظهره شقي في مخبره.. أما إذا كان الثراء والجاه والسلطان على أسس من الرمل..أي من الحرام ..فلابد من أن تنهار بأصحابها اليوم أو غداً.. وحينذاك يحمد الله الذين تمنوا مكان ومكانة أولئك النفر الذين شيدوا بنيانهم على جرف هار فانهار بهم لأن أمانيهم لم تتحقق،ففازوا بالسلامة على الأقل.. وصدق الله العظيم:

(إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.إذ قال له قومه: لا تفرح إن الله لايحب الفرحين.. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك .ولاتبغ الفساد في الأرض. إن الله لايحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي. أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً. ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته. قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض. فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: ويْ كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر.  لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويْ كأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)(2).

  لقد عجزت عن تبيان ما أردته بكلماتي وأسلوبي، فجاءت آيات الله في كتابه العزيز مفصلة ما عجزت عن تبيانه، بكلمات القرآن الكريم المعجزة وأسلوبه البياني المُعجز البليغ..فالحمد لله على أفضاله في كل حال.

   وما على المرء الذي يريد أن يكون سعيداً بحق في الدنيا والآخرة سعادة كاملة إلا أن يتفهم معاني هذه الآيات الكريمة، ويعمل بها في حياته، ويلتزم بها نصاً وروحاً التزاماً كاملاً.

  وطالما سمعت قسماً من الإخوة يتذمرون من حالتهم المادية بحجة أن فلاناً أغنى منهم.. وهو دونهم في كفايته وعلمه، وفلاناً أوسع منهم داراً وهو أقلهم علماً واقتداراً.

  وكان ردي على كل متذمر منهم:

ـ إنك أغنى من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، وأدسم طعاماً، وأوسع داراً والسعيد هو الذي يقتفي آثار الذين فازوا باستقامتهم، لابالمنحرفين الذين شقوا.. والحد الفاصل بين الحق والباطل هو الالتزام بالحلال، ورفض الحرام، ويجب أن نرثي للملوثين بالحرام، ولا نغبط إلا المتمسكين بالحلال.

  وقد مرت بكل إنسان حي أحداث كثيرة، خسر فيها أصحاب الحرام الدنيا والآخرة، وربح بها أهل الحلال الدنيا والآخرة، وكان أهل الحلال هم السعداء، وكان أهل الحرام هم التعساء، وصدق الله العظيم:

(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(3).

  إن الرزق الحلال هو الذي يبقى ويدوم، ويحمي الأسرة وعائلتها ويصونه ويبارك فيه وفيهم في الحاضر والمستقبل.

  والرزق الحرام هو الذي لايبقى ولايدوم، ويهدم الأسرة وعائلتها، ولايصونهم، ولا يبارك فيهم في الحاضر ولافي المستقبل.

  إن السعادة في الحلال، والشقاء في الحرام!!.

  تلك هي بعض ما تعلمته من حياة أقدمها لإخوتي في الله.. لعل فيها فائدة لهم ولمن يعولون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

              

الهوامش:

1 ـ سورة البقرة (2/276)

2 ـ سورة القصص الآية82:76

3 ـ سورة النحل 97:16